((مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ
بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّهَا قَالَتْ: كُنَّا نُخَمِّرُ وُجُوهَنَا
وَنَحْنُ مُحْرِمَاتٌ وَنَحْنُ مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
السند:
هذا سند من بيت البركات على المسلمين: بيت الصديق رضي الله عنه، فعروة هو
ابن ال*****ر وأمه أسماء. والمنذر أخوه شفيقه. وهشام وفاطمة زوجان وأبناء عم
وجدتهما أسماء، رضي الله عنهم.
المتن:
خمير الوجه: تغطيته بغير النقاب وما في معناه مما يشد على الوجه. وذلك بأن
تسدل الثوب على وجهها نازلا من رأسها. وجاء هذا مبينا في حديث عائشة الذي
رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة وغيرهم، قالت: ((كان الركبان يمرون بنا
ونحن مع رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- محرمات. فإذا حاذوا بنا أسدلت
إحدانا جلبابها من رأسها على وجها، فإذا جاوزونا كشفناه)).
الاحتجاج:
أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما من أهل العلم والدين، فما كان
يخفي عليها ما جاء من نهي المرأة عن النقاب وهي محرمة.فلو كان التخمير مثله
لما أقرتهن عليه وما كانت لتفرق بينهما برأيها، وفي كليهما ستر وتغطية
لولا أنها على توقيف من النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- في التفريق ما
بينهما. ولهذا احتج مالك رضي الله عنه بتقريرها فخرجه في موطئه.
التأييد:
يؤيد هذا حديث عائشة المتقدم وفيه تقرير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم-
لهن على ما فعلن. وهو حديث محتج به: والذي وقع فيه كلام من رواته- وهو يزيد
بن أبي زياد- قد قبله مسلم وجعله ممن يشمله اسم الستر والصدق وتعاطي
العلم. كما في مقدمة صحيحه.
الأحكام والاستدلال:
ستر وجه المرأة عن رؤية الأجنبي مشروع بالتقرير النبوي له في وقت الإحرام
الذي هو وقت كشف وجه المرأة: ولذلك كن- كما في حديث عائشة- يكشفن وجوههن
إذا جاوزهن الركبان. وما نهيت المرأة عن النقاب في الإحرام إلا وقد كان
النقاب من شأنها وعادتها- والعادة التي يقرها النبي- صلى الله عليه وآله
وسلم- لمصلحة تصير من الدين باستنادها إلى التقرير النبوي الذي هو أصل من
أصول التشريع، والمصلحة المراعاة هنا هي سد ذريعة افتتان الرجال بالنساء
بسبب النظر، ودفع هذه الفتنة على اعتباره القول والفعل النبويان كما في
حديث الخثعمية الآتي قريبا، ولما لم يكن وقوع الافتتان محققا دائما لم يكن
ستر الوجه حتما لازما في كل حال بل يجوز للمرأة الكشف عند عدم تحقيقها كما
في حديث الخثعمية أيضا على ما سيأتي من البيان.
حديث الخثعمية:
رديف رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه
فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وآله
وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. ا. هـ
المقصود منه:
رواه مالك والجماعة، وفي رواية الترمذي من طريق علي كرم الله وجهه قال:
واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: أبي شيخ كبير قد أدركته فريضة الله في
الحج أفيجز لي أن أحج عنه، قال: حجي عن أبيك، قال- علي- ولوى عنق الفضل
فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: رأيت شابا وشابة فلم
آمن الشيطان عليهما. ففي قوله- صلى الله عليه وآله وسلم- لم آمن عليهما
الشيطان أن الفتنة لم تقع وإنما خاف وقوعها فسد ذريعتها، وفي قوله هذا
وفعله دليل على مراعاة الفتنة، وسد ذريعتها، وفي عدم أمره للمرأة بستر
وجهها دليل على جواز ذلك لها، وهذا بناء على أنها كانت مكشوفة الوجه، كما
هو الظاهر من نظر الفضل إليها، ومن خوف الفتنة وهو الذي فهمه أكثر الناس،
وإن احتمل أن تكون مستورة الوجه بما سدلته من رأسها كما قاله ابن العربي.
تحصيل:
ستر وجه المرأة مشروع راجح وكشفه عند أمن الفتنة جائز وعند تحققها واجب،
وأمر الفتنة يختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأشخاص والأحوال فيختلف
الحكم باختلاف ذلك ويطبق في كل بحسبه.
تطبيق:
من المسلمين اليوم أقوام- معظمهم من غير أهل المدن والقرى-ألفوا خروج
نسائهم سافرات فلا يلفتن أنظارهم بذلك، فهؤلاء لا يطالبن بستر الوجوه مع
بقاء حكم غض البصر وحرمة تجديد النظر، ومن المسلمين أقوام- معظمهم من أهل
المدن أو القرى- ألفوا ستر وجوه النساء فكشف المرأة بينهم وجهها يلفت
الأنظار إليها، ويغري أهل الفساد بها، ويفتح بابا للقال والقيل في شأنها،
وشأن أهلها، وعشيرتها، فهؤلاء يجب عليهن ستر وجوههن، اتقاء للشر والفتنة
والوقيعة في الأعراض.
هذه أحكام عامة لنساء المؤمنين- ولأمهات المؤمنين زوجات النبي - صلى الله
عليه وآله وسلم- أحكام خاصة بهم، على أنهن خير القدوة للنساء أجمعين.
تفرقة وتحذير:
هنا سفور إسلامي وهو كشف المرأة وجهها- دون شعرها وعنقها- عند أمن الفتنة،
مع عدم إظهار الزينة، غير الوجه والكفين، وعدم إثارة الفتنة بروائح الطيب
وخشخشة الحلي ورنين الخلخال.
وهنالك سفور إفرنجي فيه كشف الشعر والعنق والأطراف مع التبرج بالزينة وما
إليها، فعلينا- معشر المسلمين- أن نوجه قوتنا كلَّها إلى منع السفور
الافرنجي الذي قد طغى حتى على نساء أمراء الشرق المسلمين ووزرائه، وأن نحذر
كل ما يؤدي إليه وأن نحافظ على الوضعية الإسلامية العفيفة الطاهرة
بسفورها- إذا كان سفوراً على ما فصلناه- في دائرة محدودة ليس فيها إثارة
ولا إغراء.
توصية:
على المربين لأبنائنا وبناتنا أن يعلموهم ويعلموهن هذه الحقائقكتاب آثار ابن باديس
المجلد الأول
تفسير وشرح أحاديث