الأبعاد الحضارية لانتشار الإسلام في بلاد المغرب
تعددت مظاهر الازدهار الحضاري لبلاد المغرب بعد الفتح الإسلامي ومن بينها
اندماج البربر في الحضارة العربية الإسلامية المتواصل إلى زمننا الحاضر
وإثراء الحضارة الإنسانية بعدد هام من العلماء والمفكرين والمبدعين فضلا عن
تطور الفنون كالعمارة والزخرفة...
1 – اندماج البربر في الحضارة الإسلامية
واجهت الجيوش الإسلامية في بلاد المغرب قبائل بربرية تجيد فن القتال
ومتمرسة في الحروب إلى جانب الجيش النظامي البيزنطي. وكانت تلك القبائل
متحررة في أغلب الحالات من ولاءات أو أحلاف تجمع بينها وبقية القبائل في ما
عدى المصالح المشتركة بحيث لم تكن توجد مظاهر وحدة تجمع بينها وتجعلها
تتضامن وتتحالف للوقوف بقوة أمام التحديات الخارجية. ولهذا السبب كانت
منطقة شمال إفريقيا منذ فجر التاريخ معرضة للغزوات المتتالية من الفينيقيين
والرومان والبيزنطيين والوندال... فغياب المصير المشترك ووحدة العقيدة
والثقافة أمران جعلا من القبائل البربرية تبحث عن هويتها المشتتة بين ولاء
بعضها للبيزنطيين واستقلال البعض الآخر على أرضه طالما أنه قادر على الدفاع
عنها. ولما جاء الإسلام فإنه مثل عامل وحدة ثقافية واجتماعية وعقائدية
وسياسية اجتمعت حوله مختلف القبائل تتهافت على القيام بدور لبناء هذا الصرح
العملاق المتمثل في "خير أمة أخرجت للناس" والمساهمة في تدعيم المكاسب
كنشر الإسلام في الأندلس ودعم الحضارة الإسلامية بمعالم وشخصيات علمية لا
يزال أثرها قائما إلى يوم الناس هذا. ويتشابه دور الدين الإسلامي في هذا
المجال مع الدور الذي لعبه في الجزيرة العربية لما حثّ الرسول محمّد صلى
الله عليه وسلم على تأسيس نظام سياسي يتجاوز الإطار القبلي وأدى إلى نشأة
الدولة الإسلامية التي يتساوى فيها جميع الناس بقطع النظر عن انتماءاتهم
القبلية.
ولئن كانت بداية عملية اندماج البربر بطيئة فإنها توسعت وفق السياسة التي
اتبعها الولاة حيث شجع أبو المهاجر دينار – وهو غير عربي – البربر على
اعتناق الإسلام وكان مرنا معهم وأسلم على يده الكثير منهم مثل القائد
كسيلة.
وفي سنة 65 هـ كان ثلث جيش زهير بن قيس البلوي من البربر، كما أن كسيلة لما
دخل القيروان لم يدمرها وأمّن أهلها وكذلك فعلت الكاهنة. ومن جهة أخرى
ساهمت سياسة القائد حسان بن النعمان في اندماج البربر في الحضارة الإسلامية
لما اشترط على القبائل المنهزمة نحو 12000 رهينة لينشر في صفوفهم الدين
الإسلامي ويدعم بهم الجيش لتحقيق الانتصارات كما ساهم هؤلاء الرهائن في نشر
الإسلام بين ذويهم فيما بعد وشاركوا في الفتوحات ونالوا نصيبهم من الغنائم
ومن الأراضي وارتقى العديد منهم في الرتب العسكرية. وتعتبر كل هذه الأمثلة
نماذج إسلامية لكيفية تعامل القادة مع السكان الأصليين حيث أن المسلمين لم
يصلوا إلى بلاد المغرب ناهبين ومخربين وقاهرين ومستبدين وإنما جاؤوا
لرسالة أسمى ونظرة أرقى تتلخص في نشر كلمة التوحيد ورفع راية الإسلام إلى
أبعد ما تسمح به الظروف والإمكانيات المتاحة، وكان رد الفعل من طرف البربر
بالمثل حيث أقبلت جل القبائل على الإسلام واندمجت في المجتمع الإسلامي
الجديد ليس بقوة السيف وإنما بالاقتناع وترسيخ العقيدة الإسلامية لدى فئات
واسعة من السكان.
وليس غريبا عن هذه الحضارة الجديدة ببلاد المغرب أن يعين الوالي - وهو عربي
– رجلا من البربر وهو طارق بن زياد ليتولى قيادة الجيش الإسلامي لفتح
الأندلس، وأن يتكون جند موسى بن نصير من 17000 من العرب و12000 من البربر
وبذلك نجح المسلمون في نقل مجال الصراع من داخل بلاد المغرب إلى الخارج
وأصبح كل من العرب والبربر في خط واحد لمواجهة القوط الغربيين ولنشر
الإسلام في الأندلس.
هذه المعالم أتت لتؤسس لحضارة جديدة لم يسبق لها مثيل لدى السكان الأصليين
فأمر موسى بن نصير بتعليم القرآن للبربر وأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز
عشرة علماء إلى بلاد المغرب لترسيخ القرآن والسنة النبوية وتعاليم الإسلام
في صفوف البربر.
كما ساهم استيطان العرب ببلاد المغرب واختلاطهم بالسكان الأصليين في بناء
المجتمع الإسلامي الجديد، فمنذ الفتوحات الأولى وفد إلى بلاد المغرب أكثر
من 180000 رجل من المقاتلة العرب استقر أغلبهم فيما بعد بالقيروان وقد كتب
اليعقوبي "في مدينة القيروان أخلاط من الناس من قريش ومن سائر بطون العرب
من مضر وربيعة وقحطان وبها أصناف من العجم من أهل خراسان ومن كان وردها مع
عمال بني هاشم من الجند وبها عجم من عجم البلد البربر والروم وأشباه
ذلك"(اليعقوبي، البلدان ص 348).
ولم تقف مظاهر الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عند هذا الحد بل شملت ميادين كانت مجهولة من قبل مثل العلوم والفنون والعمارة.