الغَيْرَةُ..
حنينٌ إلى الماضي..
سالم العجمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، و لاعدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
أما بعد :
فالحقيقة أن الناظر إلى أحوال هذه الأمة ليرى العجب العجاب، وسرعان ما يتملّكه الهمّ و الاكتئاب؛لما يرى من شدة التغيُّر الذي طرأ على الناس في هذا الزمان، حتى أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وأصبح من ينكر المنكر غريباً وكأنه جاء بأمر عجيب، وهذا هو مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء"( ).
ولذا فإن الغربة كل يوم تتجدد، وكلما تقدم الزمان كلما اشتدت الغربة، واستحكمت قبضتها على المصلحين المتمسكين بآثار صفوة الخلق من سلف هذه الأمة، فأصبحوا فرادى بين الناس، متميزين بين الخلائق، تعرفهم بسيماهم، قد تركوا الناس وهم أحوج ما يكونون إليهم، ولو رأيت حالهم لتمثل لك حال الغريب الذي شطت به الديار عن أهله، فتجده حزيناً *****راً، تبكيه الكلمة، وتجرحه الإشارة، ويتخيل أن الناس كلهم ضده يريدون وأده حياً، ولعلك لا تستغرب لو رأيته منـزوياً إلى أحد الجدران يبكي وله نشيج مما في داخله من الحرقة والألم.
ولقد بدأت الغربة تستحكم منذ أن كسر الباب الذي كان بيننا وبين الفتن بمقتل عمر بن الخطاب رضي الله، فمنذ ذلك اليوم انطلقت الفتن، وبدأت تموج كموج البحر، ودارت رحاها على الناس، فأصبح الكثير منهم يتخبط لا يعرف الحق من الباطل ولا الصحيح من السقيم، وبسطت الدنيا نفوذها على كثير من البشر، فأصبحوا في غيهم سادرين، ونسوا وصية نبيهم الناصح الأمين- عليه الصلاة والسلام- التي قال فيها:"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم:"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"( ).
ومن أجل أن يعرف الصالحون ما هم مقبلون عليه من الفتن والامتحان، فقد بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما في طريقهم من العثرات والعقبات حتى لا يفاجأوا فيها، وذلك بقوله- عليه الصلاة والسلام-:"لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم"( ).
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه:"إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاءً وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولن تروا من الأمراء إلا غلظة، ولن تروا أمراً يهولكم ويشتد عليكم إلا حقره ما بعدُ ما هو أشد منه".
وقال عروة بن ال*****ر:"كانت عائشة-أم المؤمنين – رضي الله عنها- تقول: رحم الله لبيداً كان يقول:
ذهب الـذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فكيف لو أبصر زماننا هذا ؟
قال عروة : ونحن نقول: رحم الله عائشة فكيف لو أدركت زماننا هذا ؟"( ).
رحمك الله يا أماه..
فهي تقول هذا الكلام وهي تعيش في خير القرون، وبين صفوة البشر بعد الأنبياء: صحابة محمد صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم وأرضاهم.
فكيف لو أدركت زماننا هذا.. الذي تكالبت فيه قوى الشر على جهود الخير المتواضعة، وتحركت معاول الهدم على صرح الفضيلة تريد أن تمحو أثره من الوجود؟؟.
زمان فشى فيه الجهل والانسلاخ ،وضيّعت فيه الأمانة، ونطق فيه الرويبضة( ).
زمان خوّن فيه الأمين، وأُمِّن فيه الخائن، وأكرم فيه أهل الباطل، وحقّر فيه أهل الحق، حتى أصبح المتمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم أندر من الذهب الأحمر فلا يؤخذ قولهم، ولا يجدون معيناً لهم ، وأصبحوا غرباء حقا، لا يجدون على الحق أنصاراً.
وصدق فيهم وصف النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء:"أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم"( ).
وانطبق على الكثير من أهل زمانهم قول القائل:
أرى حللاً تصان على رجال
وأعراضاً تـذل فـلا تُصانُ
يقولون الزمان بـه فسـاد
وهم فسدوا وما فسد الزمانُ
وكما أن التغيير حصل في انحراف كثير من الناس عن العقيدة الصحيحة، واتبعوا الأهواء ومضلات الفتن، فإنه –أيضاً- حصل التغيير في الأخلاق، فانحدر سلوك كثير من المسلمين ، حتى والله لو قورن خلقه بأخلاق أهل الجاهلية لفضلوا عليه، مع ما أنعم الله عليه من نعمة الإسلام، ولا سيما في أخلاق عظيمة مرتبط بعضها ببعض، كالحمية، والمروءة، والغيرة على الأعراض، وحمايتها مما يدنّسها أو ينالها بسوء.
حتى قال بعضهم: " وددت لو أن لنا مع إسلامنا كرم أخلاق آبائنا في الجاهلية؛ ألا ترى أن عنترة الفوارس، جاهلي لا دين له، والحسن بن هانئ- أبو نواس- إسلامي له دين، فمنع عنترة كرمه ما لم يمنع الحسن بن هانئ دينه، فقال عنترة في ذلك:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي
حتى يـواري جـارتي مـأواها
وقال الحسن بن هانئ مع إسلامه:
كان الشباب مطيـة الجهـل
ومـحسّن الضحكـات والهـزلِ
والباعثي والناس قد رقــدوا
حتى أتيـت حليـلة البعـــل( ).
وهذا الذي أردتُ بيانه في هذه الرسالة وإلقاء الضوء عليه، تسلية لأهل الغربة، المتمسكين بتلك الأخلاق الرفيعة.. التي كادت تندرس من الوجود ، لولا أن قيّض الله لها من يحييها، ومع ذلك فإن المتمسك بها أصبح نادراً في مجتمعه، مميزاً بينهم، كلما سار في طريق رأى فيه عجباً، وكلما حلَّ بأرض وجد فيها ما يحزنه، وكلما خالط قوماً عاين تغير أحوالهم.. حتى أنه لو لم يكن يعرف تلك الأرض وأولئك القوم لاشتد لهم استنكاراً..
أنكرتها بعد أعــوام مضين لها
لا الدار داراً ولا الجيران جيراناً
وإنني لأكتب ذلك نصحاً لمن وضع رجله على بداية الطريق المظلم، لعله أن يستعتب ويتَنبَّه قبل فوات الأوان وضياع الفرصة، واندراس ما تبقى من المآثر، فيعيش الصراع الأبدي في داخله، بين رغبته في العودة إلى الأصل، وبين ما أفلت زمامه فلا يستطيع السيطرة عليه، ولعله لا يكتشف تلك الحقيقة إلا بعد أن ينجلي غبار المعركة، فيقوم ليبكي زماناً اغتر فيه، عاضاً أصابع الندم بسبب تفريطه، يعاتب نفسه حتى يكاد يقتلها كمداً.. ولسان حاله يقول:
إن الزمان الذي ليلاً سعدت بـه
قد كاد في وضح الأحداث يبكينا
فمن أجل ذلك؛وقبل الوقوع في ما لا تحمد عقباه؛كانت هذه الكلمات.
صور من حياة أهل الجاهلية..
حقيقة ما كنا لنتصور أننا سنكون بحاجة إلى أن نستدل بأخلاق أهل الجاهلية، وقد كرمنا الله بخير دين وأفضل نبي- عليه الصلاة والسلام- ، ولكن كان هذا من أجل أن يرى المسلم ما كان عليه العرب من الغيرة، والحمية، والعفة، على الرغم من جاهليتهم وشركهم.
وبصراحة.. إن المرء إذا قرأ مثل هذه النوادر ليتمنى وجودها بين صفوف كثير من المسلمين، الذين افتقدوها تفريطاً منهم.. وفقدوا معها أهم ركائز الرجولة، فصاروا أشباه رجال.. ولا رجال.
ولعل البعض يتسائل قائلاً: ولمَ لمْ تستدل من عصر الصحابة؟.
فأقول: إن زمن الصحابة لا يستغرب أن يوجد فيه خير من هذه الصور، وقد وجد، لأنهم تربّوا على يد خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، فالتزموا أوامره، وسارعوا إلى تطبيقها، فنالوا بذلك أعلى المنازل وأرفع الدرجات، ولكن الذي يُستغرب أن توجد هذه الأخلاق في أهل الجاهلية الذين لا دين لهم.
فمن أجل ذلك أوردت هذه الصور، حتى يعرف المتأمل النبيه ما وصل إليه حالنا.
"كان الشنفري- وهو أحد شعراء الجاهلية- يمدح زوجته أميمة، ويفتخر بحيائها وعفتها.. فيقول:
لقد أعجـبتني لا سقوطاً قناعها
إذا ما مشـت ولا بذات تلفّتِ
تـحل بمنجـاة من اللوم بيتها
إذا مـا بيـوت بالمذمـة حُلّتِ
كأن لهـا في الأرض نسياً تقصه
على أمهـا وإن تُكلّمـك تبْلتِ
أميمة لا يخزى ثنـاها حليلهـا
إذا ذكر النسوان عفّت وجلّـتِ
إذا هـو أمسى آب قـرة عيـنه
مآب السعيد لم يسـل أيـن ظلّتِ
فصاحبته وقور خجول، لا يسقط قناعها في أثناء سيرها،ولا تلتفت حولها، وقد حصنت بيتها عن كل لوم أو ذم يلحقها، وهي شديدة الحياء، ومن أجل ذلك لا ترفع رأسها عن الأرض في سيرها، حتى ليظن من يبصرها أنها تبحث عن شيء ضاع منها.
وإذا اعترضها شخص وكلَّمها أوجزت ومضت لقصدها وغرضها، وإن الحديث العطر عنها ليملأ زوجها زهواً وخيلاء.
إنها مثال العفة والجلال، وإنه ليرفعها عن كل شك وتهمة، فإذا أمسى وعاد إليها من المرعى أو بعد رحلته الطويلة عاد قرير العين بها سعيداً، فلا يسألها أين كانت لأنها موضع ثقته"( ).
ومما يدل على عفة نساء العرب في الجاهلية، وتَرَفُّعِهِنَّ عن أخلاق الرذيلة، وخوفهن من أن يلحق بهن العار؛تلك القصة التي حدثت لهند بنت عتبة-قبل إسلامها-:
"فإن هنداً كانت متزوجة بالفاكه بن المغيرة -أحد فتيان قريش-،وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس فيه بلا إذن؛ فنام يوماً في ذلك البيت وهند معه، ثم خرج عنها وتركها نائمة، فجاء بعض من كان يغشى البيت، فلما وجد المرأة نائمة وَلَّى عنها، فرآه الفاكه ابن المغيرة؛فدخل على هند وأنبهها،وقال: من هذا الخارج من عندك؟ قالت: والله ما انتبهت حتى أنبهتني، وما رأيت أحداً قط. قال: الحقي بأبيك! و خاض الناس في أمرها؛ فقال لها أبوها: يا بنية!العار وإن كان كذباً،أبثيني شأنك،فإن كان الرجل صادقاً دسست عليه من يقتله فيقطع عنك العار، وإن كان كذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن؛ قالت: والله يا أبت إنه لكاذب؛ فخرج عتبة فقال: إنك رميت ابنتي بشيء عظيم، فإما أن تبين ما قلت، و إلا فحاكمني إلى بعض كهان اليمن؛ قال: ذلك لك.
فخرج الفاكه في جماعة من رجال قريش و نسوة من بني مخزوم، و خرج عتبة في رجال ونسوة من بني عبد مناف.
فلما شارفوا بلاد الكاهن تغير وجه هند و كسف بالها، فقال لها أبوها: أي بنّية! ألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس خروجنا؟. قالت: يا أبت! و الله ما ذلك لمكروه قبلي، و لكنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، و لعله أن يسمني بسمة تبقى على ألسنة العرب؛ فقال لها أبوها: صدقت،ولكن سأختبره لك؛فصفّر بفرسه، فلما أدلى عمد إلى حبة بر فأدخلها إحليله، ثم أوكى عليها وسار؛ فلما نزلوا إلى الساحر أكرمهم و نحر لهم؛ فقال له عتبة: إنا أتيناك في أمر،وقد خبئنا لك خبيئة فما هي؟.قال:حبة بر في إحليل مهر، قال:صدقت،فانظر في أمر هؤلاء النسوة؛فجعل يمسح على رأس كل واحدة منهن،و يقول: قومي لشأنك! حتى إذا بلغ إلى هند،مسح يده على رأسها،فقال:قومي غير رقحاء ولا زانية( ).
فلما خرجت أخذ بيدها، فنترت يدها من يده،وقالت: إليك عني .. فطلقت منه؛ فتزوجها أبو سفيان، فولدت له معاوية"( ).
فتأمَّل حال هند وهي مشركة لم تكن أسلمت بعد؛ومدى خوفها من العار والفضيحة التي تأنف النساء العفيفات منها؛ ولذا فإن هنداً عندما أسلمت جاءت لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء، فيقرأ عليهن هذه الآية:"يـــــأَيُّهَا النبيُّ إذا جَآءَك المؤمنات يُبَايِعنكَ عَلَى أَن لاَّ يُشرِكنَ باللهِ شَيئاً وَلاَ يَسرِقنَ ولا يَزنِينَ ..." الآية؛فإذا أقررن قال:"قد بايعتكن"؛حتى إذا جاءت هند امرأة أبي سفيان، فلما قال:"وَلاَيَزنِينَ"؛قالت:أو تزني الحرة؟!!لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية فكيف بالإسلام"( ).
وعن عائشة-رضي الله عنها –قالت:جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ عليها:"أَن لاَّ يُشرِكنَ بِاللهِ شَيئاً وَلاَ يَسرِقنَ ولاَ يَزنِينَ..))الآية؛ قالت: فوضعت يدها على رأسها حياءً،فأعجبه ما أرى منها،فقالت عائشة:أقري أيتها المرأة ،فو الله ما بايعنا إلا على هذا .
قالت : فنعم إذاً . فبايعها بالآية"( ).
الله أكبر ! لقد اشتقنا كثيراً إلى رؤية هذه المناظر، وسماع تلك المآثر، التي تحقق فيها قول حسان رضي الله عنه:
أصون عرضي بمالي لا أدنســـه
لا بارك الله بعد العرض بالمــال
أحتال للمال إن أودى فأكســبه
ولستُ للعـرض إن أودى بمحتال
ولقد بلغت الغيرة بالعرب منتهاها؛حتى إنها لتوصل إلى القتل دون مساس كرامتهم وأعراضهم ولو بكلمة؛ومما يُذكر في ذلك "أن بني عقيل بن علفة كانوا يتنقّلون وينتجعون الغيث، فسمع عقيل بنتاً له ضحكت فشهقت في آخر ضحكتها !، فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول :
فرقت إني رجـــل فـــروق
لضحكة آخـرها شهيـــــق
قال الأصمعي : كان عقيل رجلاً غيوراً "( ).
كل ذلك بسبب المروءة التي سكنت سويداء قلوبهم، حتى صارت أغلى ما يملكون، ويهون على المرء منهم أن يفقد حياته ولا يفقد مروءته، ولذا عندما سئل عبد الملك بن مروان : أكان مصعب بن ال*****ر يشرب الطلاء – يعني الخمر -؟. قال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه.
ولم تقتصر غيرة العرب ومروءتهم على أنفسهم بل إنهم شملوا الآخرين حتى قال قائلهم :
وإني لأغضي الطرف عنها تستـراً
ولي نظر لولا الحياء شديــــد
ومن أجل ذلك فقد كانت هذه الأخلاق العالية سبباً في ارتفاع أسمائهم، وعلو ذكرهم ،ونجاتهم من المهالك؛"فلما مات ليث بن مالك؛ أخذ بنو عبس فرسه وسَلَبَه،ثم مالوا إلى خبائه فأخذوا أهله،وسلبوا امرأته خماعة بنت عوف بن محلّم، وكان الذي أصابها عمرو بن قارب وذؤاب بن أسماء؛ فسألها مروان القرظ بن زنباع: من أنت؟.فقالت: أنا خماعة بنت عوف بن محلّم؛ فانتزعها من عمرو وذؤاب لأنه كان رئيس القوم، وقال لها : غطي وجهك ، والله لا ينظر إليه عربي حتى أردك إلى أبيك ، وضمها إلى أهله ،حتى إذا دخل الشهر الحرام أحسن كسوتها وأخدمها وأكرمها ، وحملها إلى عكاظ ، فلما انتهى بها إلى منازل بني شيبان؛قال لها :هل تعرفين منازل قومك ومنزل أبيك؟. فقالت : هذه منازل قومي ، وهذه قبة أبي؛قال: فانطلقي إلى أبيك؛ فانطلقت؛ فخّبرت بصنيع مروان.
ثم إن مروان غزا بكر بن وائل ، فقصوا أثر جيشه، فأسره رجل منهم، وهو لا يعرفه،فأتى به أمه ، فلما دخل عليها ؛ قالت له أمه :إنك لتختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرظ ، فقال لها: وما ترغبين من مروان؟.قالت:عظيم فدائه؟.
قال:وكم ترغبين من فدائه؟؛قالت: مائة بعير ،فقال مروان :ذلك لك على أن تؤديني إلى خماعة بنت عوف.
فمضت به إلى عوف بن محلّم؛ فبعث إليه عمرو بن هند أن يأتيه به ، وكان عمرو وَجَدَ على مروان من أمر؛فآلى أن لا يعفو عنه حتى يضع يده في يده؛ فقال عوف حين جاءه الرسول: قد أجارته ابنتي وليس إليه سبيل .
فقال عمرو بن هند :قد آليت أن لا أعفو عنه أو يضع يده في يدي .قال عوف:يضع يده في يدك على أن تكون يدي بينهما، فأجابه عمرو بن هند إلى ذلك .فجاء عوف بمروان فأدخله عليه ؛ فوضع يده في يده ، ووضع يده بينهما، فعفى ؛وقال عمرو بن هند:لا حر بوادي عوف – أي : لا سيد به يناوئه-"( ).
ومما يصور ما كانت عليه نساء العرب – في العصر الجاهلي –من الستر والحشمة؛ قول القائل :
سقط النصيف ولم تـــرد إسقاطه
فتناولتـه واتقتــنا باليـــــد
وهذا شاهد على ما كُنّ يتمتعن به من ستر للوجه عن أعين الرجال ، في الوقت الذي تكشفت بعض نساء المسلمين ، وألقين الحياء وراءهن ظهرياً. هذه صور عن ذلك المجتمع الجاهلي الذي تمسك أهله بكرائم الأخلاق، التي نفتقد كثيراً منها في وقتنا الحالي.
فيا للأسف !.. أن نفقد أخلاقاً تَمَسَّك بها أهل الجاهلية ، مع ما عندنا من الخير العظيم الذي خلفه لنا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكننا أعرضنا عنه ، فعلت بعض أخلاق أهل الجاهلية على أخلاق كثير من المسلمين ، الذين اهتموا بعمار دنياهم وتزيينها على حساب دينهم..
ما بال ديـنك ترضــى أن تدنسه
يوماً وثوبك مغسـول من الـدنس
فالله المستعان .
بداية الانحدار..
لا أظنه خافياً على من أصلح الله بصيرته ما نحن فيه من الفساد الأخلاقي ، الذي طغى على كثير من بلداننا الإسلامية؛فأصبح كثير منهم لا يغار على محارمه ؛ فتخرج الزوجة أو الابنة أو الأخت سافرة متبرجة ،فلا يحرك ذلك قلبه ، ولا تهتز له جوارحُه .
بل ولعله يفاخر بتلك المناظر ،ويرى أنها مما تزيده تحضراً ،وليقال عنه أنه إنسان انفتاحي.
وهذا له أسباب كثيرة ؛ من أعظمها :
أن كثيراً من هؤلاء أعرض عن تعاليم هذا الدين العظيم ، الذي أعزنا الله فيه بعد الذلة ، وأكرمنا به بعد المهانة ، وجعل لنا من الأجر ما لم يجعله لغيرنا من الأمم ، وأعظم ذلك أن خصنا من دون الأمم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع ، أفضل نبي وخير رسول؛ ولكن عندما فَرَّطَ كثير من المسلمين بهذه النعمة العظيمة ، وأعرضوا عن اّتِباع هديه ؛ هانوا وذلوا بين الأمم ؛ فأصبحوا يقلدون الكفار شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع .. يظنون أن ذلك تقدماً ورقياً ، وهو والله خِسة ، ودناءة ، وسقوط إلى الهاوية.
وصدق نبينا الكريم حيث قال :"لتتبعن سنن من كان قبلكم ، حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه؛قالوا :يا رسول الله اليهود والنصارى ؟.قال: فمن؟"( ).
ومما أثر – أيضاً – في ألئك المسلمين الذين فقدوا الغيرة :
كثرة الفتن والمغريات ، التي استسلم لها بعضهم ؛فتشربها قلبه حتى صارت جزءاً منه لا يستطيع عيشا بدونها،ولا يأنس إلا بها؛فانتكست فطرته ، فأصبح يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً ؛ولو جاءه من يُبَيِّن له الطريق ويوضِّح له المحجة؛ ظن أنه هو المحق؛وأن هذا المتكلم على خطأ؛وأنه رجعي أو متخلف؛لا يريد أن يتقدم أو يتحضر؛وكأن التقدم والحضارة بتفسخ النساء وتكشفهن !!..
قاتل الله المفاهيم العوجاء ..
ولكن لا غرابة !! ..فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن ذلك، ولم يتركنا نسير في عمى تتخبطنا الأهواء؛فقال صلى الله عليه وسلم :" تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت الحصير عوداً عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه"( ).
بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛فوالله هذا هو الذي يحدث؛كيف لا وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى .
فلو نظرتَ إلى بيوت أهل المعاصي وكبائر الذنوب لرأيت عجباً ، ولوجدت أن أحدهم قد جاء بأنواع المنكرات التي يمارسها في الخارج فأدخلها جميعاً على أهله ؛ لأنه قد اختلطت عليه الأمور، وفقد التمييز، وصارت هذه المنكرات روحاً لا تفارق جسده، ورآها من أعرف المعروف فَلٍمَ لا يمارسها في بيته ؟!! .
فلم يكفه أنه انحرف، بل قاد أهله معه إلى الانحراف ..
فيا حسرتاه على النساء اللاتي لا غيور لهن ..
وإنني لأرى من لا حيـاء له
ولا أمانة وسط القوم عرياناً
ومما جعل بعض الرجال تسقط غيرته، وتُدَ هْدَه إلى الحضيض: ظنه بأن الحشمة والستر مضى زمانها وانقضى، وأنه لا يريد أن يُنَغّص على زوجته؛ حتى يدلل لها على أنه رجل مُتَفهّم ، وأنه ضد الاحتكار ، ولا يدري المسكين أنه بفعله هذا قد سقط ، وأول ما سقط من عينها هي إلى الأبد، لأن المرأة تريد أن تعيش مع رجل تأوي إليه وقت الشدة ، وتحس بخوفه عليها ويحوطها برعايته ؛ ومن أجل ذلك جعل الحكيم الخبير – سبحانه – القوامة بيد الرجل ، قال تعالى:"الرَّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فضَّل اللهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"( ).
وحتى أبرهن على ما ذكرته آنفاً؛فهذه الكلمات من زوجات نطقن بالحقيقة التي قد تخفى على كثير من الناس.
قالت " ن.د": وهي امرأة متزوجة منذ خمس سنوات :
"لم يكن زوجي يمنعني من أي شيء عندما خطبني، فكنت أرتدي ما يحلو لي، وكنت أرتاد الكثير من الأماكن المختلطة، وقد كان يلاحظ نظرات الرجال ولا يقول شيئاً !!.
بصراحة تمنيت أن أشعر بغيرته، لكني في حينها لم أقلق كثيراً للأمر؛ فقد اعتقدت أنه لا يريد أن يشعرني بأنني مقَيَّدة، ولكن مع مرور الأيام بدأت ألاحظ أنه لا يغار أبداً فمهما فعلت ومهما حصل فهو لا يتأثر، وقد تشاجرت معه كثيراً بافتعال أسباب أخرى، ولكنني في حقيقة الأمر كنت أشعر بإحباط بسبب عدم غيرته ، إلا أنني لم أعترف له بذلك حتى الآن ومازلت أعاني من هذا الأمر ، إلا أنني لم أخبره بشيء.. فهذا أمر لا يقال ، بل يجب أن يشعر به هو بنفسه ."
وقالت أخرى :
" يجب أن تشعر المرأة أن زوجها يغار عليها، فأنا أرى أن الزوج الذي لا يغار على زوجته لا يحبها ولا يهتم بها، وأما أنا فإنني أشعر بالسعادة عندما يرفض زوجي أمراً بسبب غيرته عليّ "
وأردفت ثالثة :
"أعتقد أن عدم غيرة الزوج أخطر من غيرته الشديدة؛ فأنا أفضل أن يمنعني زوجي من الخروج، وأن يغار عليّ لدرجة الشك من أن لايغار على الإطلاق، فهذا يشعرني أنني غير مرغوبة، وأنه لا يهتم بي".
وعلى جانب آخر قالت إحدى النساء عن غيرة الرجل على زوجته:" هذا الأمر يسعد أية امرأة ، ولكن طبعاً بالدرجة المقبولة والمعقولة .."
وختمت إحداهن بقولها :" لا يكفيني أن يخبرني زوجي أنة يحبني بل يجب أن أشعر بغيرته عليّ "( ).
ففي كلام هؤلاء النسوة توضيح جلي لنظرة المرأة للرجل الذي لا يغار عليها، لأنها حينئذ ستحس بالنقص الذي سيكدر حياتها، لأنها فُطرت على ذلك ..
ولكن ليت القوم يعرفون هذه الحقيقة فيستيقظون من رُقادهم الطويل ، ويتنبهون من غفلتهم التي أطبقت على قلوبهم فيستدركون ما فاتهم.
ومما أوصل الحال إلى ما هي عليه الآن من السوء والتدهور :
أننا فقدنا أولئك الشباب الغيورين الذين كان أحدهم إذا بلغت أخته سن العاشرة حبسها في البيت، وعاملها معاملة النساء الكبيرات، فلا تخرج إلا بحدود ضيقة، مغطية رأسها، ويا ويلها إن وقفت عند الباب، أو نادت الباعة؛ فعند ذلك لا تتصور ما يأتيها من النكال، ولذا تجد البنت تنشأ وقد تشرًّبت الأخلاق الحسنة.
ولكن .. للأسف الشديد .. فقدنا ذلك الصنف من الشباب، فصاروا أندر من النادر، فتجد المنزل يدخله كل ما يفسد الأخلاق ويدمرها، فخرجت عندنا هذه الأصناف المنحرفة.
وإنني إذ أخص الشباب بالذكر لأنهم اطلعوا على سبل الانحراف، فكان الواجب عليهم أن يحصنوا بيوتهم عنها، ويحذروا أن تداهمهم، لا أن يغفلوا كما غفل غيرهم حتى داهمهم الفساد على حين غرة؛ فأصابهم في مقتل، سقطوا على إثره،يتأَوَّهُون من الألم، ويشتكون من الإصابة ..
كفى حزناً أن لا حياة هنيئة
ولا عمل يرضى به الله صالحُ
قصة حزينة..
قبل زمن ليس بالبعيد كانت تتجلى في مجتمعاتنا صوراً جميلة مشرقة، تعكس مدى ما كان عليه الناس من التمسك بالأخلاق العالية، والآداب الرفيعة.
ولو جلست مع من أدرك ذلك الزمان، ولم ينسلخ من مبادئة الكريمة، وطلبت منه أن يحدثك عن أحوال الناس آنذاك.. لحدثك حديثاً مصحوباً بالتنهدات والزفرات الحارة، هذا إن لم يعلو صوته نشيج وبكاء.. وحاله كقول القائل:
فزعت إلى الدموع فلم تجبني
وفقـد الدمع عند الحزن داءُ
وما قصرت في حزن ولكن
إذا عظم الأسى ذهب البكاء
فلا تستغرب .. ولا يأخذك العجب!! فإن طهارة الماضي صحبتها رقة في القلوب، وحنين لا ينقطع.
لقد كانت الغيرة والحياء والمروءة ومكارم الأخلاق هي السمة العامة لأغلب أهل المجتمع، ورأس المال الذي لا يفرِّطون به، ولا يسمحون لأحد أن يناله بسوء، وقد جمعني ذات مرة مجلس مع أحد كبار السن، ودار حديثي معه حول تلك الحقبة التاريخية الطيبة، وغيرة الناس في ذلك الزمان، فكان مما قال: " كانت الطفلة في السابق قبل سن العاشرة تخرج إلى الجيران، ترسل إليهم ( النقصة)، فإذا بلغت العاشرة تُمنع من الخروج، وتسمى (مخفرة).. أما المرأة فكان لباسها يتكون من ثوب فضفاض يغطي كل جسمها، ويسحب في الأرض، تجُرُّه من خلفها، وتغطي وجهها بالملفع أو اللثام، وتلبس العباءة فوق ذلك..
وعادة النساء في ذلك الوقت أنه كان للمرأة يوم تزور فيه أهلها، تذهب مع الفجر مع الظلام قبل أن تشرق الشمس، ويبدو ضوء النهار واضحاً، حتى لا يكتشف الناس ملامحها.. يأخذها زوجها يذهب بها إلى أهلها، وعادة تأتي بعد صلاة العشاء حيث يكون الظلام أكثر فلا يراها الناس".
وقد بلغت الغيرة عند أولئك الناس في الزمن الماضي ذروتها، ولم تقتصر غيرتهم على أنفسهم فقط بل كانوا يغارون على مجتمعهم مما أثر في تماسكه وترابطه.
فقد كان الجار في الماضي له منزلة رفيعة، وتقدير من نوع خاص، حتى إن الرجل ليغار على محارم جاره كما يغار على محارمه، وربما يسافر الرجل الأيام المتوالية، وجاره يقوم على أهله بكل مروءة وحياء، لا تخالط قلبه ريبة، ولا طمع في رذيلة..
وكانت المرأة في ذلك الوقت تسير محتشمة متسترة ، تخرج لقضاء حوائجها، ولا يستطيع أحد أن يقربها، أو يتفوَّه عليها بكلمة، لأنه ما أن يفكر في ذلك إلا ويرى الناس تلتف حوله من كل مكان، وقد يصل الأمر إلى ضربه.
وفي الماضي القريب كان الرجل يتهيّب أن يمر بين المنازل أكثر من مرة، لأنه ما إن يفعل ذلك حتى يستوقفه أهل الشارع، ويسألونه عن حاجته، فإن كان له حاجة وإلا مُنِع من المرور.
ولكن يا للأسف..
ما لبثت هذه الصور المشرقة طويلاً حتى آلت إلى الغروب، وما لبثت تلك الصور الجميلة أن صارت مشوهة قاتمة، ليس إلى الوضوح فيها من سبيل.. فبدأنا نرى تلك المناظر الموحشة والمشاهد المحزنة – التي تنـزه عنها أهل الجاهلية-، والتي تدل على تغير الناس، وتبدل أحوالهم.. فانظر يا رعاك الله كم من المسلمين وضع على منزله جهاز "الستلايت" أو " الدش" بحجة أنه يريد أن يرى الكره أو الأخبار؛"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"؛وهو يعلم بما يعرضه هذا الجهاز المفسد.. ثم يخرج من بيته ويترك الأسرة هملاً.. ولك أن تتصور عندما تأتي إحدى نسائه ، وتدير هذا الجهاز بقصد أو بغير قصد، على إحدى القنوات اليهودية أو الفرنسية- أو ما تبثه بعض الدول المسلمة التي تخلت عن الكثير من مبادئ الإسلام، فتشاهد فيهن العري والتفسخ، بل وتشاهد الرجل وهو يواقع المرأة، ومن هنا تبدأ المأساة، وتبدأ المرأة تحولاً جديداً في حياتها..
فهل يا ترى أن هذا الرجل الذي وضع "الستلايت " لا يعلم ما يُعرض فيه؟
بل هو يعلم، ولعله كان ينتقد من يضعه فوق بيته، ولكن بعد أن وضعه هو غَشِيَته الغفلة، واستحكم عليه الهوى وحب الشهوات، فلم يعد يتذكر حاله قبل ذلك.
وبعض المسلمين لا يحلو له المقام في بلاده في فترة الصيف، فيسافر إلى بعض البلدان التي تكثر فيها الفواحش، ومواخير الدعارة، والمراقص، والخمارات..
ولا يكتفي أن يذهب إليها بنفسه، بل يزيد على ذلك أن يأخذ أسرته معه إلى تلك البلاد المنسلخة من الفضيلة، بحجة أنه يريد " التصييف" ، يتخلص بذلك من لوم بعض الفضلاء.
بل وصل الحال ببعضهم أن يأخذ بيد زوجته فيدخل معها إلى المرقص!!
يدخل إلى هذا المكان القذر ليري زوجته عورات النساء الراقصات العاهرات، التي لا تضع إحداهن على جسدها إلا ما يستر سوءتها، ولك أن تتصور حاله بعد أن يأخذ نصيبه من ذلك المسكر حيث يكون كالحمار يدور حول الرحا؛حتى لو فُعِل بزوجته ما فُعِل لا يدري.
وبعض المسلمين يترك نساءه يعملن أو يدرسن بين صفوف الرجال، بل ومن المحزن أن ترى امرأة ذات نسب عريق، وأصل أصيل، وقد توظفت "سكرتيرة" عند بعض المسئولين، تعرض مفاتنها أمامه، وتعطر المكتب قبل حضوره، وتنسق الزهور له، وتتفنن في أنواع اللباس حتى تكون غاية في الأناقة.
فيا لله العجب !!.. هل يتصور أن يحدث مثل هذا ؟!!، ولو رأيت والدها أو أخاها أو زوجها في المجالس لقلت ليثاً غضنفراً، لا تقف في وجهه الرجال، ولكن –مع الأسف- مظهر فقط؛ولكنه خاوٍ من أدنى معاني الرجولة الحقيقية.
ومن الأمور المحزنة؛أن هذا الداء قد انتشر بين أهل الخير، فدَبّ فيهم التساهل والضعف؛فإنك إذا رأيت أحدهم حين يمسي عليه الليل رأيت شهماً غيوراً ذا حمية وإباء، وما إن يصبح عليه الصباح حتى ترى ما يهولك، فقد تغير ذلك الشهم الغيور إلى إنسان منسلخ منحرف، حَلَّ في قلبه الوهن والخور، وتساوت عنده الأمور، فلم يعد يميّز بين الفضيلة والرذيلة و..
الملـح يصلح ما يُخشى تغيره
فكيف بالملح إن حلت به الغِيَرُ
فتجد أن أحدهم تخرج معه زوجته وهي كاشفة لوجهها أو رأسها، أو لابسة النقاب الذي يظهر نصف الوجه، أو تظهر من خلاله العينان وقد وضعت عليها الكحل والزينة، فلا يتأثر.
وبعضهم تخرج ابنته أو زوجته أو أخته وقد لبست البنطلون أو "الجيبي كلوت" فلا يغار، بحجة أنها لبست فوقه العباءة.
وبعضهم تخرج نساءه إلى حفلات الأعراس، متجملة متبرجة، وحيدة مع السائق إلى ساعات الصباح الأولى، فلا يهتم لذلك.. بل قد لا يدري!!!.
وبعضهم تسافر نساءه من بلد إلى بلد، أو من مدينة إلى مدينة من غير محرم.. تركب إحداهن الطائرة متعرضة للأخطار والفتن ونظرات الرجال، وهي وحيدة ليس معها من يحميها؛وزد على ذلك أن بعض النساء إذا ركبت الطائرة وليس معها رجل، فإنها لن تسلم من نظرة "المضيف" –أو غيره-، وتليين الكلام معها طمعاً في الحصول على شيء منها، لأنه يراها صيداً سهلاً..
وأدهى من ذلك وأمر.. ما يندى له القلب.. مما يحصل من بعض النساء حين تركب الطائرة، فإنها تكشف وجهها، أو تخلع عباءتها، حيث لا يكون عليها رقيب ولا حسيب..
ولا أظنه خافياً ما يحصل من بعض النساء من الضحك ، والخلوة، والخضوع بالقول مع الأطباء، أو الباعة، أو بعض الموظفين في الدوائر الحكومية، ناهيك عن قيادة بعض النساء للس*****ت يمرحن يميناً وشمالاً.
وهذا كله على سبيل التمثيل لا الحصر، وإلا فإن الهموم كثيرة والجروح نوازف..
وما خشيت من الماضي ونكبته
إني أخاف على قومي من الآتي
عودةٌ إلى الأصل..
اعلم – رحمني الله وإياك- أن الغيرة من أعظم الأمور التي يتميز بها القلب الصحيح من القلب السقيم، وأنه لا خير فيمن لا يغار، وما دخل التساهل والهوان والذلة بين المسلمين إلا بعد أن ضعفت غيرتهم على عقيدتهم وأخلاقهم، فعادوا متهاونين متخاذلين، يقتفون آثار الكفرة والمشركين، يبحثون عن التقدم والرقي من ورائهم..
وقد تأثر بعض فساق المسلمين بتلك البهرجة الزائفة، فعادوا لينشروا أفكارهم، ويبثون سمومهم في هذه الأمة، وينخرون فيها من الداخل،فغيَّروا وجهها الأبيض الناصع الجميل إلى وجه أسود مخيف، وحملوا عليها بكل ما يستطيعون من قوة، فقامت مثقلة بالجراح، وقد فقدت الرجال التي كانت تشد بهم الأزر، وتعدهم للمستقبل المجهول.
وما برح هؤلاء الفساق يتفننون في إضلال الناس؛فمرة يتكلمون بلسان الناصح الأمين الذي يعتصر ألماً وحرقة على أمته؛يضحكون بذلك على السذج من المسلمين.. ومرّة بتثبيط أهل الخير والإصلاح،يصدق عليهم في ذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم:"سيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثـمان إنس"( )؛ويصور حالهم قول القائل:
وصاحبٌ راح يسدي لي نصائحه
ولم يكـن ناصحـاً يوماً حماقاتي
يقول دعك فمـا غيرت مفتسداً
فعش حياتـك في يسـرٍ وملهاةِ
وخذ كغيرك أفـياءً منعمــة
ودع لغيرك تقــويم الخطيئات
جهـالـة وحماقـات يـراد بها
لجـم الضمـير وإطفاء المروءات
واعلم أخي القارئ الكريم أن هذه الدنيا إنما هي بلاغ إلى الدار الآخرة، فالسعيد الذي يخرج منها وقد أخذ معه الأعمال الصالحة ما يكون سبباً في نجاته من عذاب الله- جل وعلا-، والشقي من أتبع نفسه هواها ، ففرَّط في العمل ، وأسرف على نفسه بالمعاصي حتى لقي الله وهو عليه غضبان.. فشتان بين هذا وذاك.
قال الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى-:
"ولَمَّا علم الموفَّقون ما خُلقوا له، وما أريد بإيجادهم،رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رُفِعَ لهم، فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد، بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام،أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنقص، ممزوج بالغصص، وإن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سرّ يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسرّاته، أوله مخاوف وآخره متالف، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار باعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أترابا كأنهن الياقوت والمرجان ، بقذرات دنسات سيئات الأخلاق،مسافحات أو متخذات أخدان، وحوراً مقصورات في الخيام، بخبيثات مسيبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد؛بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونداء المنادي: يا أهل الجنة إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا؛ وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبوا فلا تهرموا، بغناء المغنين..
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متـأخـر عـنـه ولا متقـدم
أجـد المـلامة في هـواك لذيذة
حبـاً لـذكرك فليلُمْنِ اللــوم
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً، وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد: ليعلمَنّ أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد.
فلو توهَّم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام، وادَّخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفى لهم من قرة أعين، لم يقع على مثلها بصر،ولا سمعته أذن، ولا خطر على قلب بشر ، لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً لا تعتريه الآفات، ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال، فهم في روضات الجنة يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون، وبالحور العين يتنعمون، بأنواع الثمار يتفكهون .. تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد، فوا عجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها، وكيف طاب العيش في هذه الدار، بعد سماع أخبارها، وكيف قرّ للمشتاق القرار دونها أعين المشتاقين، وكيف صبرت عنها أعين الموقنين،وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين، وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين"( ).
فحي علـى جنات عـدن فإنها
منازلنـا الأولى وفيــها المخيَّمُ
ولكننا سبي العـدو فهـل ترى
نعـود إلى أوطاننــا ونسلـم
فيـا بائعـاً هـذا ببخس معجل
كأنك لا تدري، بلى سوف تعلمُ
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تـدري فالمصيبة أعظمُ
هذا ما أردنا بيانه من الحق00
نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا الإخلاص والقبول .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين0
كتبه
سالم العجمي
22/ذي الحجة/1416 هـ
الكويت- الجهراء ص.ب 1476