كان ـ في سالف الزمان ـ قوم مؤمنون ، يعبدون الله وحده ويعتقدون
بالمعاد ، ويفعلون الخيرات ، فمات أولئك القوم ، فحزن عليهم الناس لصلاحهم
وأخلاقهم . فعمل بعض تماثيل أولئك ، وكانوا يسمّون بهذه الأسماء : ودّ ،
سواع ، يغوث ، يعوق ، نسر ..
وأنس الناس بهذه التماثيل ، وجعلوها رمزاً لأولئك النفر الصلحاء الذين
ماتوا منهم . وكان أهل المدينة يعظّمون هذه الصّور ، قصداً إلى تعظيم أولئك
الأموات .
مضى الصيف ، وجاء الشتاء ، فأدخلوا الصّور في بيوتهم . ومضى زمان .. وزمان
.. حتى مات الآباء وكبر الأبناء ، فجعلوا يضيفون في احترام هذه التماثيل ،
ويخضعون أمامها . وأخذت التماثيل من نفوس أولئك القوم مأخذاً عظيماً .
وإذا بالجيل الثاني ، شرعوا يعبدون الصور .. ويقولون إنها آلهةٌ ، يجب
السجود لها ، والخضوع أمامها . فعبدوها ، وضلّ منهم خلق كثير .
وحينذاك ، بعث الله إلى أولئك القوم نوحاً ( عليه السلام ) ليرشدهم إلى
الطريق .. وينهاهم عن عبادة الأصنام .. ويهديهم إلى عبادة الله تعالى .
فجاء نوح إلى القوم .. ( فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ) فكذّبوه ، ولم يقبلوا منه ، فأنذرهم من عذاب الله تعالى .
قال : ( إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) .
( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) .
( قال يا قوم ليس بي ضلالةُ ولكني رسول من ربّ العالمين أبلّغكم رسالات
ربّي وانصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ) . فتعجّب القوم من مقالة نوح
.. وجعلوا يقولون : أنت بشر مثلنا ، فكيف تكون رسولاً من عند الله ؟ وإن
الذين اتبعوك هم جماعة من الأراذل والسفلة .. ثمّ لا فضل لكم علينا ، فلستم
أكثر منّا مالاً أو جاهاً .. وإنا نظنّ إنكم كاذبون في هذه الادعاءات ..
وقال بعض القوم لبعض : ( ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم إن هو
إلا رجل به جنّة ) .
وشجّع بعض القوم بعضاً ، في عبادة أصنامهم ( وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّا ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ) .
ولما طال حوارهم وجدالهم ، قال نوح : ( أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على
رجل منكم لينذركم ) ؟ وأخذ نوح ( عليه السلام ) جانب اللين واللّطف ، ولكن
القوم لم يزيدوا إلا عناداً .
ولكن نوحاً ( عليه السلام ) لم ييأس منهم ، بل كان يأتيهم كل صباح ومساء ،
ويدعوهم وينذرهم بلطف ولين .. وكان القوم إذا جاءهم نوح للدعوة ( جعلوا
أصابعهم في آذانهم ) حتى لا يسمعوا كلامه ( واستغشوا ثيابهم ) تغطّوا بها
حتى لا يروه . وكثيراً ما هاجموه ، وضربوه حتى يغشى عليه ! لكنّ نوحاً
النبي العظيم العطوف الحليم ، كان إذا أفاق يقول : اللهم أهد قومي فإنّهم
لا يعلمون .
وفي مرات أنهكوه ضرباً وصفعاً ، حتى جرت الدماء عن مسامعه الكريمة ، وهو
مع ذلك كلّه كان يلطف بهم ، ويدعوهم إلى الله تعالى ، فكانوا يقولون : لم (
يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) ؟
حتى علم أنه لا يفيدهم النصح ، فتوجّه إلى الله تعالى ، ضارعاً ، وبيّن
كيفيّة ردّهم إياه ( قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي
إلا فراراً ) ، ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم
واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً ) .
( ثم إني دعوتهم جهاراً ) ، ( ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقلت
استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ) ، ( يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم
بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً ) .
واختلق بعض أولئك الكفّار عذراً تافها .. فقالوا : ( أنؤمن لك واتّبعك
الأرذلون ) ؟ فإن أردت هدايتنا ، وإعزازنا لك ، فاطرد هؤلاء الأرذلين الذين
آمنوا بك عن حوزتك .. فإنّا لا نستطيع أن نقرن بهؤلاء فكيف نستجيب لدين
يستوي فيه الشريف والوضيع ، والكبير والصغير ؟
فأجابهم نوح ( عليه السلام ) ، بلهجة كلّها حنان وتذكير : ( قال وما علمي
بما كانوا يعملون ) ؟ ( إن حسابهم إلا على ربّي لو تشعرون ) ، ( وما أنا
بطارد المؤمنين ) ! ( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) وكيف أطرد جماعة آمنوا
بي ، وآزروني وساعدوني على نشر الدعوة ؟ ( ويا قوم من ينصرني من الله إن
طردتهم أفلا تذكّرون ) ؟ ( إن أنا إلا نذير مبين ) أنذر الناس على حدّ سواء
، من غير فرق بين الشريف والوضيع ، والغنيّ والفقير ، والكبير والصغير .
ولما انقطع القوم عن الاحتجاج .. ولم يتمكّنوا من رد الأدلة التي ذكرها
نوح ( عليه السلام ) ، أخذوا يهدّدونه ، بالرجم بالحجارة ( قالوا لئن لم
تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين ) .
وقد علم نوح ( عليه السلام ) أنهم لا يقبلون منطقاً ، ولا يهتدون ، فضرع
إلى الله تعالى ، في أن ينجّيه من هؤلاء المعاندين ( قال ربّ إن قومي
كذّبون ) ، ( فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين ) .
وحيث كان نوح يخوّف قومه من عذاب الله ، إن أصرّوا على الكفر .. قال بعضهم
، استهزاءً : إلى متى تهدّدنا بعذاب الله ؟ ( فائتنا بما تعدنا إن كنت من
الصادقين ) .
فأجابهم نوح : إن هذا الأمر ليس بيدي .. و( إنما يأتيكم به الله إن شاء ) .
ثم توجه إليهم في تحسّر ، وقال : ( لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم .. ) .
وعند ذاك توقّع النّصر من الله تعالى .. وانتظر الوحي ليعلم أنّه ما ينبغي
أن يصنع بهؤلاء القوم ؟ فأوحى إليه الله تعالى : ( إنّه لن يؤمن من قومك
إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) .
وإذ تمّت الحجة .. وانقطعت الأعذار ، وطالت الدعوة ما يقرب من عشرة قرون ،
يئس نوح منهم يأساً باتّاً ، وأشفق على أولادهم وأحفادهم أن يأخذوا طريقة
الآباء في الكفر والإلحاد . فدعا إلى الله تعالى ، قائلاً : ( ربّ لا تذر
على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا
فاجراً كفّاراً ) .
وحينئذ أمره الله تعالى أن يغرس النخل فإذا أثمر نزل عليهم العذاب . وقد
كان من مقتضى عدل الله تعالى أن لا يعذّب طفلاً صغيراً بذنوب الآباء ..
فعقّم أرحام النساء أربعين سنة ، فلم يولد لهم مولود ولم يبق لهم طفل غير
مكلّف .
وفي تلك المدّة شرع نوح في غرس النخل ، فكان القوم يمرّون به ويسخرون منه ،
ويستهزئون به ، قائلين : انّه شيخٌ قد أتى عليه تسعمائة سنة ، وبعد يغرس
النخل ! وكانوا يرمونه بالحجارة .
ولما بلغ النخل ، وانقضت خمسون سنة ، أمر نوحٌ بقطعه .. فقالوا : إن هذا
الشيخ قد خرف .. وبلغ منه الكبر مبلغه ! مرّة يقول : أنا رسول .. ومرّة
يغرس النخل .. ومرّة يأمر بقطعة ؟
ولمّا اكتمل الأمر وصارت المدّة ألف سنة إلا خمسين عاما ، أوحى الله إليه
بصنع السفينة ( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) . فأخذ نوح (
عليه السلام ) يصنع الفلك ، وجبريل يعلّمه كيف يصنعها .. وإذ كان من الواجب
صنع سفينة تسع ملايين المخلوقات ، أوحى الله إليه : أن يكون طول السفينة
ألفاً ومائتي ذراع ، وعرضها ثمانمائة ذراع ، وارتفاعها ثمانين ذراعاً ،
فيكون الحجم سبعة ملايين ، وستمائة وثمانين ألف ذراع .
لكنّ نوحاً ( عليه السلام ) سأل الله تعالى أن يعينه على صنع مثل هذه
السفينة الكبيرة ، قال : يا ربّ من يعينني على اتخاذها ؟ فأوحى الله إليه :
ناد في قومك ، من أعانني عليها ، ونجر منها شيئاً صار ما ينجره ذهباً وفضة
. فأعانوه في صُنعها . وكان محلّ صنع السفينة صحراء وسيعة ( ويصنع الفلك
وكلما مرّ عليه ملا من قومه سخروا منه ) !
فكان بعضهم يقول : أيها النبي ، لم عدلت عن رسالتك إلى النّجارة ؟
وبعضهم كان يقول : يا نوح صرت نجّاراً بعد النبوّة ؟
وبعضهم كان يقول : السفينة تصنع للبحر وأنت تصنعها في البر ؟
وكانوا يتضاحكون ! ويتعجبون ! ويرمون نوحاً بالجنون والسّفه .
ويجيبهم نوح ( عليه السلام ) في تأدّب ولين : ( إن تسخَروا منّا فإنّا
نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحلّ عليه عذابٌ
مقيم ) . واشتغل بالعمل جادّاً ، حتى تمّ صنع السفينة .
ثم أمر الله سبحانه نوحاً أن يحمل في السفينة الذي آمنوا معه .. ومِن كل ذي
روح زوجين اثنين ، لئلا ينقرض نسل الحيوان .. وقد كان نوح هيّأ لكلّ صنف
من أصناف الحيوان ، موضعاً في السفينة ، ثم حمل من جميع الأصناف التي تغرق
في الماء ، ولا يتمكّن أن يعيش فيه .
فحمل من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين
، ومن الغزال اثنين ، ومن اليحمور اثنين ، ومن البغل اثنين ، ومن الفرس
اثنين ، ومن الأسد اثنين ، ومن النمر اثنين ، ومن الفيل اثنين ، ومن الكلب
اثنين ، ومن الدّب اثنين .. وهكذا ..
وحمل من الحمام اثنين ، ومن العصفور اثنين ، ومن الصعوة اثنين ، ومن
الغراب اثنين ، ومن الكركي اثنين ، ومن البلبل اثنين ، ومن الببغاء اثنين ،
ومن النّسر اثنين ، ومن الهدهد اثنين ، ومن الفاختة اثنين ، ومن الطاووس
اثنين .. وهكذا ..
وحمل من الجعلان اثنين ، ومن اليراعة اثنين ، ومن اليربوع اثنين ، ومن السنور اثنين، ومن الخنافس اثنين .. وهكذا ..
وبالجملة فقد صنع في السفينة اكبر حديقة حيوانية شاهدها العلم . وجمع في
السفينة لكل حيوانٍ من طعامه الخاصّ مبلغاً كثيراً . هكذا شاء الله ..
ونفّذ مشيئته نوح ( عليه السلام ) .
وحمل الذين آمنوا به ، وكان عددهم ثمانين شخصاً .. ( وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها إن ربّي لغفور رحيم ) .
وكان لنوح ( عليه السلام ) زوجتان ، إحداهما مؤمنة ، والثانية كافرة ..
وكانت الزوجة الكافرة تؤذي نوحاً ، وتقول للناس : إن زوجي مجنون وإذا آمن
أحد ، أخبرت الكفّار .
وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى هذه الزوجة ، حيث يقول : ( ضرب الله
مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين
فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) .
ولما ركب نوح ( عليه السلام ) السفينة ، اركب معه الزوجة المؤمنة ، وترك الكافرة ، فغرقت مع سائر الكفار .
ولما ركب نوح والّذين آمنوا معه السفينة ، وأركب جميع الحيوانات ، كلاً في
موضعه .. كسفت الشمس ، وأخذت السماء تمطر مطراً غزيراً ، وطفقت عيون الأرض
تنبع بالمياه الكثيرة ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ) منصب انصباباً
شديداً لا ينقطع ( وفجّرنا الأرض عيونا ً) حتى جرت المياه على وجه الأرض (
فالتقى الماء ) ماء الأرض وماء السماء ، حتى صار العالم كبحر كبير .
واستمرّ هطول الأمطار ونبع العيون أربعين يوماً . وفي تلك الأثناء ، كانت
السفينة تجري فوق ظهر الماء حسب هبوب الرياح ، وإذا بنوح ( عليه السلام )
يشرف من السفينة فيرى ولده ، يقع مرّة ، ويقوم أخرى ، يريد الفرار من الغرق
، فناداه : ( يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) . لكن الابن العاق
أبى قبول نصيحة والده الشفيق ، وأجاب نوحاً ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من
الماء ) .
فنظر إليه نوح نظر مشفقٍ ، وقال : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم
) . ولكنّ عناد الولد ، وإصراره على الكفر حال بينه وبين قبول نصح أبيه ،
فلم يركب السفينة ، وكانت السفينة حينذاك ( تجري في موج كالجبال ) .
وبعد برهة من هذه المحاورة ( حال بينهما ) بين نوح وولده ( الموج فكان من
المغرقين ) . وأخذت نوح ( عليه السلام ) الرقة على ولده ، فتضرّع إلى الله
تعالى في نجاة ابنه الغريق ، فإن الله تعالى كان قد وعده بنجاة أهله ، فقال
نوح ( عليه السلام ) : ( ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحقّ وأنت أحكم
الحاكمين ) .
ولكنّ الله تعالى ، كان قد وعد نجاة أهل نوح الذين كانوا من الصالحين ، ولذا أجابه : ( يا نوح إنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح ) .
بعدما غمر الماء جميع الأرض ، وهلك كل كافر ( قيل يا أرض ابلعي ماءك )
فغاض الماء الذي نبع من الأرض ، وأوحى إلى السماء : ( يا سماء اقلعي )
وكُفي عن الانصباب والمطر ، فانقطع المطر ( واستوت ) السفينة ( على الجودي )
وهو جبل ، أرست السفينة عليه ، وأخذت المياه التي بقيت على الأرض من
الأمطار ، تتسرّب إلى البحار .
وأوحى إلى نوح ( عليه السلام ) : ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك
وعلى أممٍ ممن معك ) فنزل نوح من السفينة ، ونزل المؤمنون الذين كانوا معه ،
وبنوا مدينةً ، وغرسوا الأشجار ، وأطلقوا الحيوانات التي كانت معهم .
وابتدأت العمارة في الأرض ، وأخذ الناس يتوالدون ويتناسلون ، وأوحى الله
تعالى إلى نوح : يا نوح ، إنني خلقت خلقي لعبادتي ، وأمرتهم بطاعتي ، فقد
عصوني ، وعبدوا غيري واستوجبوا بذلك غضبي ، فغرّقتهم .