بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الحارس بن عمير الازدي بكتاب
إلى ملك الروم أو إلى أمير بصري شرحبيل بن عمرو الغساني التابع لقيصر ملك
الروم يدعوه إلى الإسلام فقتل هذا الأمير مبعوث الرسول صلى الله عليه و سلم
وذلك أنه قال له أين تريد ؟ فقال الشام قال فلعلك من رسل محمد قال نعم
فأمر به فأوثق رباطا ثم قدمه فضرب عنقه وكان قتل هذا الرسول عملا فظيعا لا
ينبغي أن يمر دون حساب فلم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء مهما أشتد
الخلاف ، ولذلك كان لابد من أن يرسل الرسول حملة تأديبية لهؤلاء المعتدين
حتى لا تتكرر هذه المأساة وتهون حياة السفراء ، ولكي يبث الرعب في قلوب
القبائل التي يمكن أن تستمرا مثل هذه الأعمال الغادرة وتحاول النيل من
المسلمين فأرسل الرسول في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة هذه السرية
وكانت مكونة من ثلاثة آلاف مقاتل وعقد لواءها لزيد بن حارثة ، وقال الرسول
إن أصيب فجعفر بن أبى طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحه فإن قتل
فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم ومضى الجيش حتى نزل بـ ” معان
” من أرض الشام حيث قتل مبعوث الرسول صلى الله عليه و سلم ، وبلغ المسلمين
أن هرقل بـ ” البلقاء ” في مائة ألف من الروم وانضم إليهم جمع كثير من
قبائل لخم وجذام والقيس وبهراء وتلي – فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على ”
معان ” ليلتين ينظرون في أمرهم وتشاورون وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمره
فنمضي له وشجع عبد الله بن رواحه أفراد الجيش فقال يا قوم : والله إن التي
تكرهون للتي خرجتم تطلبون – الشهادة – وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا
كثرة – ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطقوا فإنما هي
إحدى الحسنيين إما ظفر وإما شهادة فمضى الناس وقالوا صدق والله ابن رواحه
وهكذا لعب الأيمان والرغبة في الاستشهاد دورهما في بث الحماسة وعدم
الاكتراث بهذه الأعداد الضخمة من جنود العدو وزحف المسلمون الى قرية مؤتة ،
ودنا الروم من المسلمين والتقى الجيشان في قتال عنيف ، وظل زيد بن حارثة
رضي الله عنه يقاتل حتى استشهد وقد أخذت الرماح منه كل مأخذ وانطلق جعفر من
بعده فأخذ الراية وظل يقاتل حتى قطعت يمينه فاخذ الراية بشماله فقطعت
فاحتضن الراية بعضدية حتى قتل ووجد المسلمون في جسده بعضا وتسعين جراحة ما
بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح كلها في الأمام فلما قتل جعفر استلم الراية
عبد الله بن رواحه وتقدم بها ونزل عن فرسه وأتاه ابن عم له بعظم عليه بعض
لحم وقال شد صلبك بهذا فأنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت فأخذ بيده وأخذ
منه بفمه يسيرا ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه فتقدم وقاتل حتى قتل ثم أخذ
الراية ثابت بن أرقم فقال يا معشر الناس اصطلحوا على رجل منكم قالوا أنت
قال ما أنا بفاعل فاتفقوا على خالد بن الوليد رضي الله عنه فأخذ الراية
ودافع القوم وكان شجاعاً حكيماً يعرف سياسة الحرب فانحاز بالجيش الإسلامي
الى الجنوب وانسحب العدو نحو الشمال وأرخى الليل سدوله فرأى خالد أن الموقف
يحتاج إلى خطه ذكية ينسحب بها من أمام هذه الأعداد الكثيفة للعدو فاغتنم
مجيء الليل فغير نظام جيشه فجعل مقدمته ساقه وبالعكس وكذلك فعل بالميمنة مع
الميسرة فأنكر العدو حالهم وظنوا أن مدد كبير جاء من المدينة ونجحت هذه
الخطة فقد تهيب الروم المسلمين وتذكروا ما صنع ثلاثة آلاف بهم من الشجاعة
والبأس فكيف الأمر وقد وصلتهم هذه الامداد التي لا يعرفون عددها وقوتها
فتقاعس الروم عن مهاجمة الجيش الإسلامي ، وصار خالد يناور الأعداء في ذكاء
لتغطية انسحابه حتى نجح ورجع إلى المدينة بعد أن خاض الجيش الإسلامي هذه
التجربة المثيرة والشجاعة مع إحدى قوتي العالم الكبريين يومئذ وفى أوحى
الله إلى النبي في نفس الوقت بأخبار الغزوة فخطب المسلمين ونعى إليهم زيدا
وجعفر وابن رواحه قبل أن يأتيهم الخبر فقال : أخذ الراية زيد فأصيب ثم
أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها ابن رواحه فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية
سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ، ومنذ ذلك الوقت عرف خالد بن الوليد
بهذا اللقب وقام الرسول يواسي أسر الشهداء ويرعاهم وأمر بإحضار بني جعفر
فلما حضروا تشممهم وذرفت عيناه ولما أتاهم النعي قال لأهله : أصنعوا لآل
جعفر طعاماً فقد أتاهم أمر يشغلهم وعرف في وجه رسول الله صلى الله عليه و
سلم الحزن ولما دنا الجيش من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه و
سلم والمسلمون وأساء الناس استقبالهم وجعلوا يحثون على الجيش التراب
ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله ، وذلك لقلة معرفتهم بأبعاد المعركة
التي خاضوها وكيف أنه لم يكن هناك تكافؤ بين المسلمين في العدة ، ولذلك
وجدنا الرسول صلى الله عليه و سلم يدافع عنهم وينفى عنهم تهمة الفرار فقال
ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى أثر سرية مؤتة أثر انسحاب
المسلمين من هيبة الإسلام عند قبائل العرب الساكنة بين المدينة والشام
والدائرة في فلك الرومان والتي لم تنجح سرية مؤتة في تأديبهم والقصاص منهم
لقتل الحارث مبعوث النبي صلى الله عليه و سلم وانتشرت فملأ شائعة مؤداها أن
جمعا من قضاعة في شمال المدينة تهيأ للزحف على المدينة فأرسل النبي في
جمادى الآخر سنة ثمان من الهجرة حملة بقيادة عمرو بن العاص لكبح جماح هؤلاء
المعتدين وكان عددهم ثلاثمائة رجل ثم أرسل عمرو يطلب مددا فأمده الرسول
بجيش يقوده أبو عبيد بن الجراح في مائتين من أصحابه منهم أبو بكر وعمر بن
الخطاب فكان جميعهم خمسمائة مقاتل ، وقد استطاع هذا الجيش الإسلامي أن يشن
هجوما عنيفا على هذه القبائل حتى فرقوهم وردوا إلى القبائل المتحالفة
طمأنينتهم وأرجعوا هيبة المسلمين على الحدود الشمالية وتسمى هذه الحملة (
سرية ذات السلاسل ) وبهذا أصبح المسلمون أقوى عنصر سياسي في شمال بلاد
العرب إن لم يكن في بلاد العرب .