انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين ،
وبهزيمة ساحقة للمشركين ، وكان قتلى المشركين سبعين رجلا ، وأسِر منهم
سبعون ، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم ، واستشهد من المسلمين أربعة
عشر رجلا ، منهم ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار ، ولما انهزم
المشركون أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله .. وقد تلقى المسلمون الخبر بسرور كبير، وقد ذكر أسامة بن زيد ـ
رضي الله عنه ـ أنه لم يصدق الخبر إلى أن رأى الأسرى ، وقد علت الدهشة
الناس ، إذ لم يصدقوا في البداية أن قريشا قد هُزِمت ، وأن زعماءها قد
أصبحوا بين قتيل وأسير ، وتحطم كبرياؤهم وجبروتهم ، وظهرت حقيقة آلهتهم
الزائفة ، وعقائدهم الباطلة ..
ومن المعلوم أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يعلمون الغيب ، ولا اطلاع لهم على شيء منه ، فقد قال الله تعالى : {
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا
يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ
تَتَفَكَّرُونَ }(الأنعام: 50).. وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله ـ
تبارك وتعالى ـ قد اختص بمعرفة علم الغيب ، وأنه استأثر به دون خلقه ،
جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل ،
فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم , وجعله معجزة لهم ، ودلالة
صادقة على نبوتهم ، قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ
فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن
رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا }(الجن: 26، 27) .
وقد اشتهر وانتشر أمره - صلى الله عليه
وسلم - بإطلاع الله له على بعض المغيبات ، وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من
تلك المعجزات الغيبية ، ومنها :
إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مصرع الطغاة ورؤوس الكفر وأسمائهم وأماكن مصرعهم قبل المعركة .
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال ، وكنت رجلا حديد البصر فرأيته ، وليس أحد يزعم أنه رآه غيري ، قال: فجعلت أقول لعمر أما تراه ؟ ، فجعل لا يراه ، قال : يقول عمر :
سأراه وأنا مستلق على فراشي ، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر ، فقال : إن رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : هذا
مصرع فلان غدا إن شاء الله ، قال : فقال عمر :
فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ ، قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ،
هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا ،
قال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟! ، قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا عليَّ شيئا )( مسلم ) .
وقال قتادة ـ في رواية البخاري ـ: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما " ..
وفي وقوف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
على فم البئر ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعد موتهم عظة وعبرة ، إذ أنهم
الآن بعد قتلهم وموتهم في حياة جديدة ، هي حياة البرزخ الخاصة ، التي لا
ندري حقيقتها وكيفيتها ، وهو أمر يتعلق بعالم الغيب .
فالإيمان بهذه الحياة وما يحدث فيها من عقائد المسلمين ، فنعيم القبر
وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث ، من ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
حينما مرَّ بقبرين : ( إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير )( البخاري ) ، فأثبت ـ صلى الله عليه وسلم ـ عذاب القبر ، وأخبر أن سبب تعذيبهما النم بين الناس وعدم الاستنزاه من البول .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر )( مسلم ) .
فعذاب القبر أمرٌ غيبي، والأمور الغيبية مجالها الاعتقاد ، لأنَّهَا لا
تُدرَك بالعقول ، فيجب الإيمان بها والتسليم ، بعد أن تحدث عنها الصادق ـ
صلى الله عليه وسلم ـ ووصلتنا بطريق ثابت صحيح ..
وكما شهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ نزول الملائكة في بدر ، هاهم الآن
يشهدون حوار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صناديد الكفرـ بعد قتلهم ـ
وقد انتهت المعركة ـ ، يعرفهم مصيرهم الأسود ، ويحدثهم أنه قد وجد ما وعده
ربه حقا ، فقد تكلل النصر ، وتحقق الوعد، وهاهي جثثهم منتنة في أحد آبار
بدر ، وفي ذلك إعلان لانتصار الإيمان على الكفر ، وعلو الحق على الباطل ..
وكم زرع هذا الحدث في نفوس المسلمين من
الثقة واليقين ، والسعادة الغامرة ، وهم يشهدون ويسمعون هذا الحوار من
رسولهم وقائدهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع زعماء الكفر ، أن قد وجد ما وعده
ربه حقا من النصر والتمكين ، فهل وجدوا ما وعدهم ربهم حقا ، ويأتي الجواب
الصامت منهم أن قد وجدوا ما أخبر به ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكنهم لا
يستطيعون الكلام ..
إن إخبار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مصارع الطغاة في بدر ومخاطبتهم
بعد قتلهم ، درس من مدرسة بدر الكبرى ، التي يجب على المسلمين في جميع
العصور أن يقفوا أمامه ، لينظروا من خلاله إلى المعايير الإيمانية في
مواجهة الحق مع الباطل ، وكيف أن الفئة المؤمنة ـ القليلة العدد والعتاد
والمستضعفة في الأرض ـ حين تسلحت بالإيمان بالله، وأخلصت لربها ، وأطاعت
نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وثبتت أمام الفتن والابتلاءات ، وتخلصت من
الأهواء والشهوات ، فإن الله تعالى أعزَّها ونصرها على زعماء الكفر ، وتحقق
لها النصر الذي وعد الله به عباده ، قال الله تعالى : {
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(الصافات173:171) ..