محمد صلى الله عليه وسلم والتاريخ الانسانى 5
كيف يكلم الله خلقه؟:
لقد حدد الله سبحانه وتعالى طريق كلامه مع خلقه فى سورة الشورى " وَمَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ
عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) " ومن سياق الأية الكريمة نجد أن الله إذا أراد أن
يكلم أحداً من خلقه فإما يوحى له وحياً كما كان مع أم موسى كما ورد فى سورة
القصص " وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) " ويكون
الوحى للأنبياء وغيرهم من الصالحين من البشر. ويوحى الله لكل خلقه كيف ما
يشاء سبحانه ووقتما يشاء فأوحى إلى النحل كما جاء فى سورة النحل "
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ
بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) "، وأوحى إلى السماء
كما جاء فى سورة فصلت " فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) "
وكذلك أوحى الله إلى الأرض كما جاء فى سورة الزلزلة " بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا (5) " ومن ثم فمن الوارد أن يوحى الله عز وجل للصالح من
الجن.
وقد يكلم الله خلقه من وراء حجاب كما كان مع موسى عليه السلام والذى جاء
ذكره فى سورة النساء " وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ
وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
(164) ".
وإما أن يكلم الله أحد من البشر بواسطة رسول من الملائكة، فيأتى رسول ربنا
من الملائكة، جبريل عليه السلام، إلى النبى الأكرم صلى الله عليه وسلم
للتبليغ وعلى رسول الإنس الدعوة للجنّ والإنس على حد سواء فيسمعه طائفة من
الجنّ فيكلفهم الرسول من الإنس فيؤمنون بالنبى فيأمرهم بتبليغ قومهم كما
ورد فى سورة الأحقاف " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا
يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ
مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) " . وهنا نخلص
إلى أن الملائكة هم رسل التبليغ من الله لرسله من الإنس المكلفين بالدعوة
وأن صالح الجنّ هم رسل تبليغ لقومهم ونذر وأن المؤمنين من الإنس هم الدعاة
إلى الله من بعد نبيهم.
ما هى الأمانة؟
لقد عرض الله عز و جل الأمانة على خلقه كما جاء فى سورة الأحزاب " إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)" وقد رفضت السماوات
والأرض والجبال تحمل الأمانة وأشفقن منها فما هى حقيقة هذه الأمانة؟
لقدقيل كثيراً عن المقصود بالأمانة وأنقل بعض ماجاء فى تفسير بن كثير رحمه
الله ومنه قول العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة و قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض, عرضها الله على السموات والأرض والجبال
إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك, وأشفقوا منها من غير معصية,
ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها
وهو قوله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} يعني غراً بأمر
الله.وكذلك ما ذكره بن كثير رحمه الله عن
ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في هذه الاَية {إنا عرضنا الأمانة على
السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} قال: عرضت على آدم,
فقال: خذها بما فيها, فإن أطعت غفرت لك, وإن عصيت عذبتك, قال: قبلت فما كان
إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة. وهناك
الكثير من الأراء التى تتفق مع وجهات النظر السابقة ولكن ما لفت نظرى هو
قول ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني, حدثنا بقية, حدثنا عيسى بن
إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير رضي الله عنه, وكان من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن
الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به, فمنهم رسول
الله, ومنهم نبي , ومنهم نبي رسول, ونزل القرآن وهو كلام الله, وأنزلت
العجمية والعربية, فعلموا أمر القرآن, وعلموا أمر السنن بألسنتهم, ولم يدع
الله تعالى شيئاً من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه
لهم, فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح, ثم الأمانة أول شيء يرفع
ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس, ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى
الكتب, فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها, حتى وصل إليّ وإلى
أمتي, ولا يهلك على الله إلا هالك, ولا يغفله إلا تارك, فالحذر أيها الناس,
وإياكم والوسواس الخناس, فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً» هذا حديث غريب
جداً, وله شواهد من وجوه أخرى.
وهنا يخطر فى ذهنى سؤال: هل فعلا الأمانة هى مجرد أن يمتثل الإنسان لأوامر
الله وإن أطاع أثابه الله وإن عصى عذبه الله؟ و ما الفرق إذا بين الجن
والإنس إذا كان كلاهما مكلف بنفس التكليف أليس هذا بظلم للجن أن يُنكر
تحملهم للأمانة مع الإنس؟
فحقيقة الأمر أنه ليس هناك فرق بين الجن والإنس إذا كانت الأمانة هى مجرد
انها الطاعة ومن ثم فإن الأمانة قد تكون شئ غير ذلك. فبعد إشفاق السموات
والأرض والجبال بنص القرآن ورفضهم تحمل الأمانة أصبح الأمر محصورا بين الجن
والإنس. إن عمل مقارنة بسيطة ما بين الجن والإنس وعلاقتهم بالخالق عز وجل
يتضح أن ما يفرق بينهم هو تميز الإنس عن الجن بالرسالة حيث أن رسل الله
كلهم من الإنس ولم يأتى من الجن رسول أبدا وإلا جاء ذكره فى القرآن. والجن
والإنس يعمران فى الأرض وسبقت الجن الإنس فى ذلك.
إن المتأمل فى ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم «إن الأمانة والوفاء
نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به, فمنهم رسول الله, ومنهم نبي ,
ومنهم نبي رسول, ونزل القرآن وهو كلام الله ..... إلى أخر الحديث» يفهم أن
المقصود بالأمانة هو الرسالة حتى لا يكون للجن أو الإنس حجة على الله عز
وجل.
وبعد أن تحمل الإنسان الرسالة والتبليغ عن الله عز وجل إلى المكلفين من
خلقه لابد من أن يجازى جزاء عاجلاً ويعرف وظيفته ودوره فى ملك الله.
لقد انتهت المسئلة عندما قبل آدم تحمل الأمانة ورفضها بقية خلقه و مهد ذلك
لإعلان مسمى من يتحمل الأمانة وهو خليفة الله فى الأرض حيث أنها هى مستقر
المكلفين من الثقلين الجن والإنس.
وبعد أن ظهرت مسئولية آدم بقبوله لتحمل الأمانة وإشفاق بقية الخلق كان لابد
من أن يكون هناك إحتفال بتنصيب آدم وتكريمه لعظم المسئولية التى اختارها
بظلمه لنفسه وجهله بتبعاتها كما جاء ذكرها بالقرآن.
لقد حان وقت تكريم آدم وذريته مكافأة له فقال ربنا فى كتابه العزيز "
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) الإسراء " فسخر الله كل خلقه
لخدمة الإنسان بإستثناء الشياطين، فيقول ربنا فى سورة إبراهيم " اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) " وقال عز وجل فى سورة النحل "
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا
تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ
تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا
بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ
وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ
فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا
ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ (18) ".
لقد هيئت الأرض حتى تكون موطنا للإنسان وحتى من قبل أن يعصى ربه حين نسى
وأكل من الشجرة لقد كان نزول آدم من الجنة قدرا محسوما وليس كما يظن الناس
أو كما يدعون أن حواء هى سبب شقائنا. ولكن ما حدث من نسيان أو عصيان آدم هو
فى الحقيقة أول موقف يتحمل فيه آدم مسئولية نفسه وكذلك من بعده بنيه وأن
يتعلم أن أى خطأ منه سيعود عليه بالشقاء. والأن وبعد أن أُعدت الأرض لمعيشة
آدم جاء موعد تعيينه خليفة لله فى الأرض التى كانت لا تؤتمر الا بأمر
خالقها هى ومن عليها. الأن أصبح بيد آدم أن يصنع بها ما يشاء سواء إصلاحا
أو إفسادا وبالطبع فإن خيرها سيعود عليه فيها وإفساده لها سوف يعود عليه
بالشر والموت وقد يؤدى إلى فناء الأرض نفسها. وفى نهاية الأمر سيحاسب آدم
على حسن أو سوء إستخدامه لما مكنه الله فيه.
وللحديث بقية بإذن الله