لم تجد عيناي مايسترعي الانتباه في سقف الغرفة، حتى وقعتا على النجفة
المعلقة، فرحت أعد مافيها من فصوص، وبقيت أعد وأعد حتى تجاوزت المئات،
وأخيراً جاءني صوتها: أنا جاهزة، فاستويت جالساً لأراها في كامل زينتها،
بادرتني قائلة- وقد علاها البشر والسرور والعجب بالنفس- مارأيك؟، وقبل أن
أجيب تذكرت ماحدث في المرة السابقة فآثرت التريث، ورحت أتأملها، وأملأ عيني
منها، لكن سرعان ماتغيرت ملامحها وعلاها الغضب، أدركت أنني تأخرت كثيراً
فقلت لها: أنت جميلة. بل إنك رائعة الجمال، لكنها أشاحت بوجهها وعادت إلى
تسريحتها تلملم عدتها الجراحية في عصبية وتتحسر على حالها، ولولا أنها تخشى
أن يفسد مكياجها لربما بكت وما أسرع دموع النساء! أسرعت إليها وقلت:
خيراً.. مابالك هذه المرة؟! هل قلت مايزعجك؟ أظن أنني امتدحتك، وأنا والله
صادق فيما أقول. لم يعجبها ذلك وقالت: لو أعجبتك حقاً لما بقيت تقلب
ناظريك، تبحث فيَّ عن شيء ولم تجده، فاضطررت لمجاملتي. أدركت أنها إحدى
ساعات النكد. ومقابلة النكد بالنكد أشبه بصب الزيت على النار، تحاملت على
نفسي وتصنعت الهدوء وقلت: ياأم عبدالله الجمال يحتاج إلى تذوق، وكلما
ازددنا تأملاً دل ذلك على مدى إعجابنا حتى وإن لم نعبر بالكلمات، ويكفي أن
تتسمر العينان لتعبر عن مدى إعجابي بما ترى. قالت في عصبية: أنت هكذا
دائماً تستعين بقدراتك الكلامية على التنصل من أخطائك. حاولت أن أتمالك
نفسي وتصنّعت ابتسامة صفراء حتى شعرت أن وجهي أصبح ليمونة وقلت: لابأس وضحي
لي.
قالت: ساعة كاملة وأنا متسمّرة أمام المرآة حتى انكسر ظهري كل هذا لأغير
شكلي الذي اعتادته عيناك، ولو أعجبتك لما بقيت صامتاً تحملق فيّ كضابط
يتفحص متهماً. ولكن ماذا أقول «زامر الحي لايطرب»، كانت كلماتها استفزازية
تكفي لتفجير كل مالدي من غضب، لكن لاخيار لي سوى الهدوء والضغط على الأعصاب
حتى تمرّ هذه الساعة على خير، فاستمررت في التمسك بابتسامتي الصفراء حتى
آلمني شدقي وقلت: سبحان الله! في المرة الماضية بادرت بإطرائك فلم يعجبك،
وقلت بالحرف إن الجمال يحتاج إلى تذوق قبل أن نعبر عنه، وقلت أيضاً إننا
لانبدي إعجابنا بالعصير حتى نتذوقه، هل المشكلة أنني بالغت في التذوق، أو
أنني بليد الإحساس أم ماذا؟ قالت: ليست المشكلة في أنك تتعجل أو تتمهل، أو
تتذوق أو لاتتذوق. المشكلة أنني لاأعجبك أصلاً سواءً تزينت لك أم لم أتزين.
أخرستني الحيرة، وسألت الله الفرج في هذه الساعة، وأخيراً دخل عبدالله بعد
أن ملّ من طول الانتظار فوجدتها فرصة، أمسكت بيده وأسرعت خارجاً وقالت:
سنسبقك للخارج كفانا تأخيراً.
عوّدتني أم عبدالله أن تتولى شؤون المنزل، ولاتسمح لي بمساعدتها إلا في
القليل النادر، وهي ترى- جزاها الله خيراً- أن ما ألاقيه خارج المنزل فيه
الكفاية، لكن عندما تصيبها ساعة النكد، ويتعكر مزاجها أثناء عملها في
المطبخ أو ترتيب البيت، أو متابعة طلبات الأولاد التي لاتنتهي، سرعان
ماتثور ثائرتها علي، وتصب جام غضبها لأنني أقف متفرجاً لا أقدم لها
المساعدة، مع أنني أكون مشغولاً أو ربما أساعدها في أمر آخر، ساعتها تنسى
كل شيء ولاترى إلا وجهاً واحداً للموضوع: هي تعمل وأنا جالس، وحتى لو قمت
وقدمت لها المساعدة فغالباً لايؤدي ذلك لنتيجة إيجابية لأنه لم يكن مبادرة،
وإنما جاء بعد طلب وإلحاح. أحاول في بعض الأحيان عندما أراها في مزاج
متعكر أن أبادر لمساعدتها، لكنها لاتثمن هذه المشاركة وتعدها مجاملة باردة
وإظهاراً للمثالية. بل إنها عدت هذه المساعدة في إحدى المرات تعبيراً عن
عدم رضاي عن أدائها المنزلي وإلا لما بادرت إلى مساعدتها.
أحياناً كثيرة أجد لها العذر، وخصوصاً مع ظروف النساء الصحية التي
غالباً مايصحبها تعكر شديد في المزاج، وشعور بالكآبة والتعاسة، ورغبة جامحة
في البكاء، وتقمص مظاهر الحزن، وسواء كان سلوكها مبرراً أو غير مبرر فقد
طورت سياسة لابأس بها في التعامل مع هذه المواقف، والحقيقة أنني اقتبستها
من بعض المسؤولين العرب، العرب الذين اعتادوا خفض الرؤوس طوال الوقت، طبعاً
أنا لاأبالغ في الحلم مثلهم، وعندما تظهر علامات حمى النكد على سلوك زوجتي
أطوي شراعي في وجه العاصفة، وأخفض رأسي، وأدعو الله أن تمر العاصفة بسلام،
أثناءها أحاول أن أجاريها قدر الاستطاعة، ومع محاولة التكيف مع طلباتها
أحاول أن يبدو ذلك طبيعياً وليس متكلفاً، وهنا تكمن المشكلة، فغالباً
ماتشعر أنني أسايرها على قدر عقلها فتزداد غضباً ولايكاد يعجبها شيء، حتى
إذا ذهب عنها الغضب، وعاد إليها صفاء ذهنها ونبض قلبها بالمرح والرحمة لكل
من في البيت أسرعنا جميعاً إليها أنا والأولاد الذين طوروا أسلوبهم في
التعامل مع أمهم الغاضبة؛ بأن يختفوا عن ناظريها حتى تمر الأمور بسلام.
أحادثها في ساعات أنسها عما بدر منها في ساعات غضبها. وأحاول أن أنبهها
إلى ضرورة ضبط الأعصاب، وأن الحزن ومشاعر السخط والغضب تزداد اشتعالاً إذا
أطلقنا لها العنان، بينما يمكننا السيطرة عليها والتخفيف من حدتها حتى
لاتكاد تظهر، فالحلم بالتحلم ومن يتصبّر يصبره الله، وكم أسعد كثيراً عندما
توافقني وتعدني بسلوك أفضل في المستقبل، لكنها تترك لنفسها فسحة وتقول
دائماً إنها بهارات الحياة معها نتذوق طعم الحياة، ولاأجد ما أقول لها إلا
أننا نحن الرجال وإن كنا نؤمن بأهمية البهارات إلا أننا نفضلها قليلة
دائماً.
لديها سؤال لايمر أسبوع دون أن تطرحه علي لاتمل ولا تكل، وأنا أستمتع
بالإجابة على سؤالها، لكن عندما يصادف ساعة نكد، يكون هذا السؤال مفتاحاً
للخصام سائر اليوم.
في عصر أحد الأيام الجميلة. وبينما الأولاد يلعبون في غرفتهم جلست إلى
جواري نحتسي الشاي وأنا أقلب كتاباً استهواني حتى لم أعد أشعر بوجودها،
وماهي إلا دقائق حتى بادرتني بسؤالها المعتاد: هل تحبني؟ فأجبتها كالمعتاد:
نعم أحبك، ثم انشغلت بفنجان الشاي والمكسرات قليلاً وعدت للاستغراق بين
صفحات الكتاب، لكنها عادت وسألتني: هل تحبني فقط، أم تحبني كثيراً؟! تأملت
سؤالها والتفت إليها باسماً وقلت: بل أحبك كثيراً، وقبل أن أعود لمواصلة
أفكار الكتاب سألتني: قدر ماذا تحبني؟ أغلقت الكتاب والتفت إليها متعجباً
من هذا السؤال الذي أسمعه لأول مرة وقلت: ماذا تقصدين؟ قالت: ماسمعت، قدّر
لي هذا الحب؟ ازداد عجبي وقلت: أظن الحب حالة نفسية غير قابلة للقياس، علت
نبرة صوتها وقالت: فكيف تميز بين أحبك وأحبك كثيراً؟ أطرقت لحظة وقلت: معك
حق.. حسن أنا أعيد الإجابة: أنا أحبك فقط، وعدت لكتابي لكي أشعرها أن
النقاش سيقف عند هذا الحد، لكنها انتزعت الكتاب من بين يديّ وقالت محتدة:
هذا يعني أنك لاتحبني، قلت في نفسي: هذه نوبة حمى، أين أنت أيتها الابتسامة
الصفراء فقد حان موعدك، أشرت إليها بيدي أطلب منها أن توضح لي كيف توصلت
لهذه النتيجة قالت: كلمة أحبك لامعنى لها، يمكن أن تقولها للكتاب الذي بين
يديك، وفنجان الشاي الذي تشربه، الحب لايكون حباً حتى يمتاز عن غيره،
وبينما هي تتحدث وتتفلسف شرد ذهني إلى آخر العالم أفكر وأتأمل كيف تستطيع
النساء ابتداع النكد بدون مقدمات وأسباب، ألقيت الكتاب وهممت بالقيام
فاستوقفتني وقالت ساخرة: ألم تحتمل البهارات هذه المرة؟ إنها قليلة. وليت
خارجاً وقلت: إنها قليلة حقاً لكنني لاأحبها مع الشاي