شرح معنى الاستواء المطابق للبلاغة والتوحيد
الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، قال تعالى ﴿ إن
ربكم الله الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى
اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق
والأمر تبارك الله رب العالمين﴾ (سورة الأعراف، 54).
المفهوم من
الآية لأول وهلة أنه تعالى خلق السموات والأرض – ثم دبرها وأمرها بما أراده
منها فصارت مسخرة بأمره – فله الخلق والأمر، وهذا دليل على تمام القدرة
وإذن يجب أن يفهم من الإستواء المعنى المطابق لذلك مع ملاحظة البلاغة
وقواعد اللغة.فنقول وبالله التوفيق :
أولا: حيث أن كلمة (خلق) فعل حادث فما عطف عليه (بثم) حادث أيضا، والحادث لا يكون صفة لذات القديم جل وعلا.
ثانيا: يجب أن يفهم من (استوى) المعنى الذى يصح أن يكون متأخرا عن خلق السموات والأرض وليس ذلك إلا الكناية عن تدبير الملك
فحسب اصطلاح اللغة يقال: استوى فلان على سرير الملك كناية عن قيامه بتدبير المملكة وإن لم يكن هناك سرير،
وبذلك
يكون المفهوم من (استوى) بمعنى (قام بتدبير المخلوقات) مناسباً لخلق
السموات والأرض ومرتبا عليه، لأن التدبير لا يكون إلا بعد الخلق،
ويؤيد
لك ما يفهم من قوله تعالى ﴿ يغشى اليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر
والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ﴾ ولذلك يذكر
الاستواء بعد الخلق دائما.
ويؤكده أيضا قوله تعالى ﴿ ألا له الخلق والأمر﴾ فالخلق يشير إلى خلق السموات والأرض، والأمر يشير إلى الاستواء على العرش.
ويؤيد
هذا المعنى آية سورة يونس ﴿ إن ربكم الله الذى خلق السموات والأرض فى ستة
أيام ثم أستوى على العرش يدبر الأمر﴾ فذكر التدبير بعد الاستواء هو
كالتفسير له.
ثالثا: أما إذا فهم من (استوى) معنى جلس فينبني عليه جملة استحالات وهى:
-
أن المعنى يكون هكذا (أن الله تعالى خلق السموات والأرض ثم جلس تعالى على
العرش) وهذا يستلزم أنه قبل خلق السموات والأرض لم يكن جالسا على العرش؟.
- فأين كان جالسا؟ وإن لم يكن جالسا على العرش قبل خلقها، فما الداعى لجلوسة تعالى على العرش بعد خلقها،
- وما العلاقة بين خلقه تعالى لها وبين جلوسه تعالى على العرش فهل لم يكن فى إمكانه خلقها إلا وهو تعالى غير جالس على العرش؟
- وهل كان العرش خاليا من الجلوس وقت خلق السموات والأرض أم كان مشغولا بغيره تعالى ؟
- وإن كان خاليا فلماذا – فهل كان تعالى مستغنيا عن الجلوس عليه؟
- وإن كان تعالى مستغنيا عن العرش قبل خلق السموات والأرض فما الذى أوجب احتياجه تعالى إليه؟
- وما الموجب لترتيب الجلوس على العرش على خلق السموات والأرض؟
- ولماذا لم يكن الجلوس قبل خلقها ؟ فالعقل يقضى بأن الجلوس بمعنى التدبير حاصل من بعد خلقها أما مجرد الجلوس فلا معنى له ولا فائدة.
- وإن عدم الجلوس أولا ثم حصوله ثانيا بعد خلقها يستلزم الحركة بعد السكون وهما حادثان فكيف يتصف بهما القديم جل وعلا.
- مجرد الجلوس على العرش بعد خلق السموات والأرض يدل على حصول تعب استوجب الجلوس على العرش وهذه عقيدة اليهود.
- لو كان الجلوس صفة للذات الإلهية لكان له أشباه كثر، ولإستلزم الأمر قدم العرش وهذا محال، فنعوذ بالله من شبه المجسمة.
-
إن قيل : إنه تعالى فوق العرش، ولكنه يبعد عنه بمسافة فهذا أيضا محال لأنه
ينافى الجلوس، ولأنه تعالى يكون محمولا فى الفضاء ومحدودا من أسفله،
وهذا يستلزم تحديده تعالى من جميع الجهات لضرورة تماثلها حكما وهذا كله مستحيل على القديم جل وعلا .
- لوكان تعالى مستقرا على العرش لاقتضى الحال أحد ثلاثة أمور : إما أن يكون تعالى مساويا للعرش أو زائدا عليه،
أو ناقصا عنه، وكل هذا تحديد وتقييد وهما من صفات الحوادث ولكنه تعالى قديم،
وحيث أن فهم الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار قد أدى إلى هذه المحالات فهو محال.
والآن سنورد بعض الآيات المناقضة لمعنى الاستقرار على العرش والأدلة الكونية فنقول الآيات المناقضة لمعنى الاستقرار ثلاث وهى :
أولا:
قال الله تعالى فى سورة الحديد ﴿ هو الذى خلق السموات والأرض فى ستة أيام
ثم استوى على العرش يعلم ما يلج فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء
وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ﴾. فإذا فهم من
الاستواء والمعية ظاهرهما الذى هو الظرفية المكانية لزم التناقض لأن
الاستقرار على العرش يمنع المعية المكانية مع أهل الأرض، والتناقض فى كلامه
تعالى محال، ولزم اتصاف القديم جل وعلا بصفات الحوادث وهى المعية المكانية
وما يتبعها وهو محال.
فإن قيل : المقصود من المعية لازمها وهو (العلم) بقصد التخلص من مماثلة الحواث.
فالجواب:
كذلك المقصود من الاستواء لازمه وهو تدبير المملكة الإلهية لأن الموجب فى
الاستواء والمعية لازمها وهو (العلم) بقصد التخلص من ممثلة الحوادث.
ثانيا: قال الله تعالى فى سورة ( ق ) ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾، وفى سورة الواقعة ﴿ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون﴾.
فلو فهم الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار المكانى لزم التناقض مع هذه الايات، والتناقض فى كلام الله تعالى محال .
ثالثا: قال الله تعالى فى سورة الأنعام ﴿ وهو الله فى السموات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ﴾
فلو فهم الاستواء بمعنى الاستقرار للزم التناقض مع هذه الآية الشريفة والتناقض فى كلام الله تعالى محال .
رابعا: قال الله تعالى ﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ﴾.
فلو كان تعالى مستقرا على العرش لكان محمولا بالملائكة المحمولين بقدرته، ولكانوا أقوى وأولى بتدبير الملك،
ولكان مفتقرا لمن يحمله، وكل هذا من صفات الحوادث الفقراء العجزة، ولكنه تعالى قديم غنى عما سواه.
فإن قيل: فما حكمة وجود العرش وما حكمة الإخبار بأنه تعالى استوى عليه، وما سبب توجه الضمائر إلى العرش ؟
فالجواب: أن حكمة وجوده يعلمها الله تعالى ولسنا مكلفين بالحبث عنها، ولكن يمكن فهم بعض الحكم وهى:
إنه
تصدر منه الأوامر والأحكام إلى الملائكة لتنفذها فى العوالم.أنه تعالى
أخبر بأنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش يدبر الأمر.
وهذا هو سبب اتجاه السائلين بضمائرهم وأفكارهم للعرش انتظارا لتحقيق مسألتهم وإجابة ملتمسهم من ربهم سبحانه وتعالى
كما أن المصلى يتجه بوجهه للقبلة فى الصلاة، وليس الله تعالى فى القبلة.
إخوة
الإيمان، من فهم الاستواء بمعنى الاستقرار جعل نفسه محكوما بحواسه وخياله
كمن راى السراب فظنه ماء طبقا لحال عينه وليس كذلك، أو من ركب القطار فظن
أن الأرض تجرى من تحته وليس كذلك. فالعاقل لا يقبل أن يكون عقله تحت حكم
حواسه بل يجب عليه أن ينتفع بعقله ويتفكر في معانى القرآن العظيم ويفهمها
بما يتفق مع بلاغة لغتنا العربية العظيمة، ومع التقديس الإلهى ولا يكون كمن
جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خيط أبيض وخيط أسود ويسأله عن
الوقت الذى يمكن فيه الامتناع عن الأكل ليلا مع أنهما يمكن تمييزهما من
بعضهما طول مدة الليل.
فنسأل الله تعالى أن يلهم عقولنا وقلوبنا
وبصائرنا معرفة الحق والتمسك به على الدوام بحق فضله وإحسانه ورحمته
وإكرامه لرسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل بيته ومشايخنا أجمعين