الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وءاله وصحبه ومن والاه أما بعد
اعلم
أن البدعة لغة ما أحدث على غير مثال سابق يقال: جئت بأمر بديع أي محدث
عجيب لم يعرف قبل ذلك. وفي الشرع المحدَثُ الذي لم ينص عليه القرءان ولا
جاء في السنة، قال ابن العربي: " ليست البدعة والمحدَث مذمومين للفظ بدعة
ومحدث ولا معنييهما، وإنما يذم من البدعة ما يخالف السنة، ويذم من المحدثات
ما دعا إلى الضلالة" ا.هـ.
وقال النووي في كتاب تهذيب الأسماء واللغات
ما نصه: "البدعة بكسر الباء في الشرع هي: إحداث ما لم يكن في عهد رسول
الله صلّى الله عليه وءاله وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة . اهـ .
أقسام البدعة:
والبدعة تنقسم إلى قسمين:
بدعة ضلالة: وهي المحدَثة المخالفة للقرءان والسنة.
وبدعة هدى: وهي المحدَثة الموافقة للقرءان والسنة.
وهذا
التقسيم مفهوم من حديث البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
ورواه مسلم بلفظ ءاخر وهو: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". فأفهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"ما ليس منه" أن المحدَث إنما يكون
ردًّا أي مردوداً إذا كان على خلاف الشريعة، وأن المحدَث الموافق للشريعة
ليس مردودًا.
وهو مفهوم أيضًا مما رواه مسلم في صحيحه من حديث جرير بن
عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن
ينقص من أجورهم شىء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من
عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء ".
وفي صحيح البخاري في
كتاب صلاة التراويح ما نصه: " قال ابن شهاب: فتوفي رسول الله صلى الله عليه
وسلم والناس على ذلك"، قال الحافظ ابن حجر: " أي على ترك الجماعة في
التراويح". ثم قال ابن شهاب في تتمة كلامه: " ثم كان الأمر على ذلك في
خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر رضي الله عنه".
وفيه أيضًا تتميمًا
لهذه الحادثة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ أنه قال:خرجت مع عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي
الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت
هؤلاء على قارىء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثم خرجت
معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر: "نعم البدعة هذه".ا.هـ.
وفي الموطأ بلفظ: "نِعمت البدعة هذه".
قال الحافظ ابن حجر: "قوله قال
عمر: "نعم البدعة" في بعض الروايات "نعمت البدعة" بزيادة التاء، والبدعة
أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون
مذمومة، والتحقيق إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن
كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة "ا.هـ.
وقال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري، شرح صحيح البخاري، المجلد الثاني >> كِتَاب
الْجُمُعَةِ >> باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : " وكل ما لم يكن
في زمنه- صلى الله عليه وسلم - يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا ومنها ما
يكون بخلاف ذلك "اهـ.
وروى الحافظ البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي ج
1 ص 469 عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال: " المحدَثات من الأمور
ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سنةً أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه
البدعة الضلالة، والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا،
وهذه محدثة غير مذمومة" اهـ.
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه حلية
الأولياء ج 9 ص76 : حدثنا أبو بكر الآجري، حدثنا عبد الله بن محمد العطشي،
حدثنا إبراهيم بن الجنيد، حدثنا حرملة بن يحيى، قال: سمعت محمد ابن إدريس
الشافعي يقول: البدعة بدعتان، بدعة محمودة، وبدعة مذمومة. فما وافق السنة
فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام
رمضان: نعمت البدعة هي" اهـ
وقال أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ
في كتابه إحياء علوم الدين، كتاب ءاداب الأكل ج2/3 ما نصه : "وما يقال إنه
أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي
بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته بل الإبداع قد يجب
في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب" اهـ
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود عن العرباض بن سارية: "وإياكم ومحدثات
الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
فالجواب: أن هذا الحديث لفظه
عام ومعناه مخصوص بدليل الأحاديث السابق ذكرها فيقال: إن مراد النبي صلى
الله عليه وسلم ما أحدث على خلاف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو الأثر.
قال النووي في شرح صحيح مسلم ما نصه: "قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص والمراد به غالب البدع".ا.هـ.
ثم
قال: "فإذا عُرِف ما ذكرته عُلم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما
أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه
في التراويح: "نعمت البدعة"، ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصًا قوله:
"كل بدعة" مؤكدًا بكل، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: (تدمر كل شىء )
سورة الأحقاف" ا.هـ.
فوائد متعلقة بالموضوع :
قال في روح البيان في
تفسير القرءان ج 9 ص 2 : " ومن تعظيمه- صلى الله عليه وسلم - عمل المولد
إذا لم يكن فيه منكر قال الإمام السيوطي قدس سره يستحب لنا إظهار الشكر
لمولده عليه السلام انتهى. وقد اجتمع عند الإمام تقي الدين السبكي رحمه
اللـه جمع كثير من علماء عصره فأنشد منشد قول الصرصري رحمه اللـه في مدحه
عليه السلام:
قليلٌ لمدحِ المصطفى الخطُّ بالذهَبْ ... على وَرِقٍ مِن خَطِ أحسنِ مَن كتبْ
وأن تَنْهضَ الأشرافُ عندَ سَماعِهِ ... قيامًا صفوفًا أو جُثِيًّا على الرُكبْ
فعند ذلك قام الإمام السبكي وجميع من بالمجلس فحصل أنس عظيم بذلك المجلس
ويكفي ذلك في الاقتداء وقد قال ابن حجر الهيتمي أن البدعة الحسنة متفق على
ندبها وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك أي بدعة حسنة قال السخاوي لم
يفعله أحد من القرون الثلاثة وإنما حدث بعد ثم لا زال أهل الإسلام من سائر
الأقطار والمدن الكبار يعملون المولد ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات
ويعتنون بقراءة مولده الكريم ويظهر من بركاته عليهم كل فضل عظيم قال ابن
الجوزي من خواصه أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام
وأول من أحدثه من الملوك صاحب أربل وصنف له ابن دحية رحمه الله كتاباً في
المولد سماه التنوير بمولد البشير النذير فأجازه بألف دينار وقد استخرج له
الحافظ ابن حجر أصلاً من السنة وكذا الحافظ السيوطي"اهـ
قال العيني في
عمدة القاري ج 11 ص 124 : " والبدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول
الله، صلى الله عليه وسلّم، ثم البدعة على نوعين: إن كانت مما يندرج تحت
مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة، وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع
فهي بدعة مستقبحة"اهـ.
قال في حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ج1 ص
103 : وأول ما زيدت الصلاة على النبي بعد الأذان على المنارة في زمن حاجي
بن الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين
الطنبدي، وذلك في شعبان سنة إحدى وتسعين، وسبعمائة كذا في الأوائل للسيوطي،
والصواب من الأقوال أنها بدعة حسنة"اهـ
قال في اللباب في شرح الكتاب
ج1 ص 684 : " قال في الدر: وعلى هذا لا بأس بكتابة أسامي السور وعد الآي،
وعلامات الوقف ونحوها؛ فهي بدعة حسنة، درر وقنية" اهـ .
قال في مواهب
الجليل ج 2 ص 9 : وقال السخاوي في القول البديع: أحدث المؤذنون الصلاة
والسلام على رسول اللـه عقب الأذان للفرائض الخمس جلا الصبح والجمعة فإنهم
يقدمون ذلك قبل الأذان، وإلا المغرب فلا يفعلونه لضيق وقتها، وكان ابتداء
حدوثه في أيام الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وبأمره. وذكر بعضهم أن أمر
الصلاح بن أيوب بذلك كان في أذان العشاء ليلة الجمعة، ثم إن بعض الفقراء
زعم أنه رأى رسول اللـه وأمره أن يقول للمحتسب أن يأمر المؤذنين أن يصلوا
عليه عقب كل أذان فسر المحتسب بهذه الرؤيا فأمر بذلك واستمر إلى يومنا هذا.
وقد اختلف في ذلك هل هو مستحب أو مكروه أو بدعة أو مشروع؟ واستدل للأول
بقوله: {وافعلوا الخير} ومعلوم أن الصلاة والسلام من أجل القرب لا سيما وقد
تواترت الأخبار على الحث على ذلك مع ما جاء في فضل الدعاء عقبه والثلث
الأخير وقرب الفجر. والصواب أنه بدعة حسنة وفاعله بحسب نيته انتهى.